

الناقد عبدالباري المالكي
السعدون شاعر تساق إليه الكلمات سوقاً , فيسمعها المتلقي ويعجب بها حتّى أنَّه ليظنّ أنها قصائد قد أعجبت الإنس والجنّ معا في هذا الفضاء الوسيع , وإننا هنا لا نستكثر على شاعرنا مثل هذا الاطناب لأنه ذلك الذي يبوح بمشاعر صادقة ، ويزن الكلمات بميزان شعري صحيح ، ويضعها في مكانها المناسب ويترجمها بذائقة قلَّ نظيرها , ففي الوقت الذي لا يرى في عيني معشوقته سوى خمائل يجول فيها ، ودفء يعيش بين طياته ، لأنهما زوبعتان تجرف القلاع والحصون , ففيهما النار التي يانس لها شاعرنا وهي تغشي بنورها أرضه التي لا يطرب إلا إليها وفيها وقد صلى فرض قافيتها شروقا , وهو إذ يلقي بابتسامته فان مواويله لا تنتهي ذات يوم , فبعينيها تحلو صبوة الشيخ ويكتفي الجمار , وابتسامته تلك لم تتغير لأنه يمتلك تلك العينين لتلك الظبية الكحلاء التي ما أن يحمر نداها من خجل
وهو بكلّ هذا وذاك يكون قد امتلك الإجادة والقيادة وكان مبدعاً أشدّ الإبداع , فهو الغزل السمين الذي لاكَ معانيه وأوصافه بقدرته وخبرته المعهودة , حتّى لم يكن للنظامين سوى أن يغسلوا قلوبهم في وعاء هذه المعاني التي نضج بها شاعرنا , ويرجعون إلى صوره , وإن طال بهم الجهد, وفي نوع من التناسب المحكم يسهب شاعرنا في ثلاثة أبيات من قصيدة مطولة , لكن هذه الأبيات الثلاثة كانت أبلغ شاهد على ما يفعله السعدون في مدارك القارئ الذي حلق معه بخيال كان أكبر من أنْ تشوبه الصنعة أو التكلف , إذْ يرى تغريدةً لنايه في ضحكة معشوقته ويجد تحت كلِّ شامة جِيداً فإن ذلك مما يمكن التعبير عنه أنه شريط صور متحركة لمناظر يطرب لها السامع , وإن لم يكن محبَّاً للشِعر لأنها تجلب لهم الجمال والسرور إلى قلوبهم , فهذه الصور المتحركة تجعل من السامعين أصنافاً , فمنهم مقتف لآثارها , ومنهم من يعدو باحثاً عن أسرارها ومنهم من يثب للبحث عن أخرى تقرع بابه لأنَّ كلَّ فاتنة في عرف السعدون إنما هي من زهو العراقيات وأن كلّ خاتونة حسناء فأصلها بغداد لا سواها , وما الباقيات إلا تقليدٌ للحقائق والمعاني وإن كانت تتجانس فيها الحروف وتتشابه فيها القرائن الجامعة , فهو قد أحلَّ المنزلة التي أحلَّها لحسنائه في لبِّ الرمان والتوت وهو يتصدى لحرب العشق التي لا هدنة فيها حاملاً ألوية الحروف , عارفاً بالشعر وفنونه , خبيراً بتوقيع الألحان على المعاني , مطلعاً على أناشيد العشق في شفتيها اللتين ما أفتى بحرمة صوتها شيخ الصبابة , بصيراً ببئرها المعطلة وخصرها المائس , فهذا التشكيل الشعري لا نراه في غيره إلا عند الكبار ممن يجعلون من الموسيقى ذبذبات تتحرك بها النفوس وتحنّ لها الآذان , كلّ ذلك يمثل القيم الجمالية لا الشكلية في قصائد شاعرنا السعدون لما امتلك من امكانيات تعبيرية وقيم جمالية .
وفي قصيدة أخرى صورة لإبداع ذهني صرف لا يمكن أنْ تنبثق من المقارنة وإنما تنبثق من جمع حقيقتين واقعتين تتفاوتان في البعد قلّة وكثرة هما ديدن الشاعر وسرّ رمله ’ إن هذه الصورة تستكشف شيئا وهو إن ذات الشاعر تقترن اقتراناً روحياً مع الأمل القادم لا محالة في غده الجديد وصبحه الذي يثق به , حتّى أننا نرى في شخصيات شاعرنا ذلك الاقتران الشعوري في وحدة عاطفية اجتمعت فيها كلّ عناصر الإحساس والفكر ما جعلها تركيبة عقلية وعاطفية في آن واحد , ومن هنا يكون التعبير وسيلة لنقل ما يدور في خلجات شاعرنا ايحاءً أو تصريحا لأن ما يدور في أعماق السعدون ترتبط به كلياً حتّى إذا رأت النور فإنها تتجسم وتأخذ مظهر الصور في شِعره بما يتناسب مع تلك الحقيقتين لتحتفظ بأصالتها التي تتولد مع التشبيهات والاستعارات التي تصنع منه شاعراً أصيلاً .
إن الصورة الشعرية لا تقبل الاختصار إلا في منهج السعدون فإنَّه يبني قصيدته من مجموعة من العناصر اللا معقدة والتي يختارها بنسقٍ تتجاوب أصداؤها في استعاراته المختلفة وهي أرض خصبة تدلّ على ذكائه يمكنه من خلالها استحضار المرئيات في الذهن ليحوكها أشياء جديدة تنقل للقارئ المشهد نقلاً أميناً لا يفوته شيء منه مما تقع عليه الحواس , فصورة الضحك والطواف والمناسك والدرب والوجع القديم والحنين لمعارك توالت في ضمير شاعرنا , والخيال القادم من تشابك السنين .
كلّ ذلك لم يكن إلا لعبة ابتدعها شاعرنا في مداعبة مواجعه في صورة توافرت فيها الخطوط والألوان المرئية التي صنعها قلق شاعرنا في مشهد متحرك توافرت فيه شروط الحركة والتصوير الحسّي اللتان طوعهما شاعرنا بلغة أغنى بها قارئه إلى حدٍّ بعيد , حتّى تغلغلت في صميمه وتعانقت مع أهوائه المتنازعة مع ما تموج به النفس من حواس وهموم :-
( القادمون من الخيال تحسسوا وجهي فحازوا في الحياة مداركا
كانت مداعبة المواجع لعبتي وكم (استفزيتُ) الدموع مشاركا
الميتون قريبة أَحلامهم إنْ كان مرقده البعيد جواركا )
وهكذا تتوالد الصور الأمينة في النقل الحسّي للشاعر إلى مدارك القارئ حتّى جعل العين مبصرة ومدركة للصور دون أيِّ جهدٍ يذكر يبذله القارئ .
أضف تعليق