يومٌ للبُكاء..

جريدة الأقلام الدولية
International pens newspaper

 

قصة/ عماد أبو زيد – مصر

كمْ كان مبلغ حزنه، وهو يدفن أمُّه!، ومع ذلك شرد عقله؛ ليتذكر حبيبته أيَّام الصِّبا في اللحظات التي يتوارى فيها جثمان أمِّه. جعل يقصُص عليَّ ما يختلج بداخله عقب مجيئنا من المقابر، مُتسائلاً عن السَّبب الذي دفع بالفتاة التي أحبَّها أيَّام المُراهقة؛ لكي تطفو على سطح ذاكرته في تلك اللحظات العصيبة.

كنتُ محزونًا لفراقها، كانت سيِّدة حنون تحبّنا جميعًا، وتحنو علينا، وتعدنا من أبنائها، وبينما نحن نُسكِنُها القبر حسبتُ أنِّي مفارقٌ أمِّي، أمِّي التي يتَّسع البيت في وجودها، ويُشعُّ نورًا وأملاً بصلواتها ودعواتها. يا لها من فظاعة حينما تقودنا الأقدار إلى هذا الموقف، وينقبض صدري لافظًا الهواء بتأثير رهبةٍ خفيَّةٍ تُحلِّق فوق الرُّءوس، ويا لهُ من يوم مشحون بالحزن. الشُّعور بالانقباض يُلازمني منذ الصَّباح الباكر؛ فقبل ساعة من الآن تصوَّرت أنِّي في عربة التَّرحيلات الزَّرقاء الضَّخمة، كانت رابضةً أمام قسم الأزبكيَّة، وكان هناك شابٌّ يبدو وجهه مُبتسمًا من نافذتها الصَّغيرة المُسيَّجة بقضبان حديديَّة، ويلوح لي بيده، رددتُ عليه تحيته، بيد أن لحيته وقفتْ حائلاً بيني وبينه، لم أتعاطفْ معه ، قلتُ في نفسي:

  • يستأهل ما يحدق به!.

على بُعد خطواتٍ من تلك العربة، تراجعت عمَّا حدَّثتني به نفسي:

  • هو ضحية.

منذ أسبوع رأيت العربة ذاتها، أقصد إحدى عربات التَّرحيلات، تقف في ميدان المُؤسَّسة، لم يخطرْ ببالي أمرًا سيئًا؛ فكثيرًا ما ينتحى سائق الباص أو الحافلة جانبًا من الطريق، ويترجَّل؛ ليأكل شيئًا أو يرشف كوبًا من شاي في مقهى أو يقضي حاجته في حمَّام مسجد قريب. كانت قدمي فوق صندوق تلميع الأحذية، المؤسَّسة مدخلي إلى مدينة القاهرة، أوَّل شىء أفكِّر فيهِ أن أبدو أنيقًا بحذاءٍ نظيفٍ لامع. بعد أن لمَّعت حذائي، وابتعتُ علبة سجائر من الكُشك الموجود على الرَّصيف المقابل للمسجد، شاهدتُ أربعة شباب منفرينَ مُزعجينَ يدفعون ثلاثة من المواطنين بقوَّة أمامهم، يُجبرونهم على صعود السَّيَّارة الزَّرقاء. كان أحد المُجْبَرين يقول:

  • بطاقتي معاك، وأنا مجوّز جديد، ح تخدني ليه للبهدلة؟.

كان بينهم ولدٌ صغيرٌ في مثل عمر أخي أحمد في الصَّف الثَّاني الثَّانوي، يحمل حقيبة ظهر، سمحوا له بعد رجاء أن يستعين بموبايل من الشَّاب الذي يُقدِّم خدمة بيع الاتصال بالشَّارع.

  • الحقني، تعال لي على قسم الأزبكيَّة، أنا اتمسكت!.

كان انزعاجي شديدًا، تخيَّلت نفسي مكانهم أو مهاجرًا بطريقة غير شرعيَّة كالشَّباب الطَّموح، فكَّرت مرارًا في السَّفر، أعلم كم هو مُكلِّف. لم تبق لنا أحلامٌ أو آمالٌ إلا في السَّفر، وهاآنذا أخيرًا أُضحي بكلِّ ما أملكه– إضافة إلى المبلغ الذي أخذته من أبي بعدَ بيع الجاموسة – رهنًا على مستقبل أفضل. للأسف يتمّ القبض علينا في عرْض البحر المتوسّط بواسطة خفر السَّواحل اليونانيِّين، ويتمُّ تسليمنا إلى السُّلطات الليبيَّة، والتي سلَّمتنا إلى السُّلطات المصريَّة في منفذ السَّلوم. للحقِّ السُّلطات الليبيَّة عاملتنا معاملة آدميَّة، لم تبخلْ علينا بالأكل أو الماء البارد، وأقلَّتنا إلى المنفذ في عربات مكيَّفة. ما إن وطأت أقدامنا الأراضي المصريَّة، وعينك ما تشوف إلا النّور، ركلات، لكمات، شتائم. حشرونا في العربة الزَّرقاء الضَّخمة، كدنا نختنق داخلها، قيظ شهر أغسطس يُصهر رمال الصَّحراء الغربيَّة، نصرخ، نستغيث بالضَّابطين اللذين جلسا في مُقدِّمة العربة جوار السَّائق، ننادي العساكر الذين أغلقوا الباب الحديد علينا بإحكام، ندقُّ بأيدينا الصُّندوق الصَّفيح، وندبُّ بأقدامنا، لايعيروا لنا آذانًا، يطول حوار الطُّرشان بيننا وبينهم بطول الطَّريق. إحدى السَّائحات نُنادي عليها:

  • Please water

تمدُّ يدَها بزجاجة الماء إلى العسكري؛ فيطيح بها. لا هواء ولا ضوء داخل العربة، الحرارة شديدة ودرجة الرّطوبة عالية. يصرخ محمّد، ينهال الضَّرب عليه عندما تتوقَّف العربة. توقَّفت بنا مرَّات، بين المرَّة والمرَّة ساعتان تقريبًا. كانوا في كلِّ مرَّة يظنُّون أنَّه يخدعهم؛ ليجد طريقًا للهروب؛ لزمنا الصَّمتَ.

سبق لي أن دخلت الزِّنزانة من قبل أثناء فترة تجنيدي ، كانت ذات سقف مُقبى، حكى لنا بعضُ الجنود أنَّهم شيَّدوها مع مبانٍ أخرى بحديد قفص القرد وألواح الصَّاج التي جمعوها من الخنادق والمخابئ؛ كانت سيناء ملأى بها حال استردادها من قبضة العدو. صادفتُ وجود نادر داخل الزنزانة؛ لتعدِّيه بالضَّرب على الصُّول نيازي. عندما رآني مُتألمًا، وأرغب في التَّبوُّل، صاح مُناديًا فايد حامل مفتاح قفل الزنزانة، وسابه؛ لتظاهره بأنه لايسمع . كانت التعليمات قد صدرت لنا قبل أيام قليلة بارتداء الزِّي الصَّيفي، أحسستُ ببرودةٍ شديدةٍ على الرَّغم من اعتدال المناخ. فعلها نادر مرَّتينِ، وخرجتُ في أقلِّ من النِّصف ساعة مرتين؛ لأبولَ – بجوار الزِّنزانة – في كلتيهما قدرًا قليلاً من البول، لا يتناسب مع ما شعرتُ به من ضغطٍ بين ساقيّ. أطنُّني سأبول الآن.. الآن.

رد واحد على “يومٌ للبُكاء..”

  1. بورك قلمك يامبدع أستاذ عماد تحية لك

    إعجاب

اترك رداً على Sami Altameemi إلغاء الرد