
International pens newspaper
عبد الستار عمورة / الجزائر
يوم ممطر
كان لنقرات حبّات المطر
من خلف زجاج النّافذة
لهذه الصّبيحة من شهر يناير
أثر بالغ على نفسي
أزحت ستارها الباهت
جلت ببصري والشّارع المكتظّ
وهم يقاومون الماء المنهمر
رغم هذه الأجواء الغير ملائمة.
تساءلت ونفسي:
ما المناسبة ياترى لهذا اليوم..؟!
حاولت ثم حاولت لأتذكّر
تدفّقت الكلمات بامتعاض:
-لا أحمّل فكري على البحث
مفكّرة أيّامي أضحت سيان
منذ أمد بعيد..لا ألوي على شيء
غير عبق القهوة ومذاقها
مع بعض السّجائر
لم أدر لهذا الألم الحادّ
الّذي لازم ركبتي فجأة
منذ أسبوع رغم اشباعه
بأنواع من المراهم
والتّي آثر بها بعض أصدقاء المقهى
عندما لمسوا تغيّرا
في مشيتي مع ألم مستمرّ
ظهر لهم في عضّ شفتي السّفلى
ومسك ركبتي براحتي
عندها شفّهم أمري فأشفقوا
وصفو لي أدويّة وأعشابا
كلّ واحد حسب تجاربه تدبّر
صارعت الزّحام وأنا أعرج
الألم ينهش رجلي نهشا
امتدّ هذه المرّة حتّى أسفله
صارعت متحمّلا..
بالكاد وصلت إلى المقهى
وجدتهم هناك ينتظرون
تهلّلت أساريرهم
أسرع أحدهم
أحضر كرسيّ وهو يقول:
صباح الخير صديقنا
ياوجه القمر..
أنرت المكان والضّوء انتشر
واللّه أفرحنا قدومك
رغم أنّك اليوم متأخّر
كان لوقع كلامه أثرا بالغا
نسيت وقتئذ آلامي
واستبشرت ببسمته واهتمامه
وأزال عنّي بعض الكدر
طلبوا أحجار” الدومينو”
فهم يمضون وقتا طويلا
على هذه الطّاولة يلعبون
حتّى وقت العصر
متناسين ضياع وقتهم
وحاجيات اهلهم وذواتهم.
مكثت لبعض الوقت وأنا أتابعهم
والأمطار تسيل بكلّ فيض.
هممت بالمغادرة..
هدروا بصوت واحد:
“إلى أين حبيبنا..؟!”
ابتسمت ورتّبت على كتف القريب منّي:
-أنتم تعلمون أنّني
لا أمكث طويلا هنا
ولا يلهيني شيء غير قهوتي
وبعض سجائري الملعونة
تركتهم وأحجارهم البيضاء
الملساء والمنقّطة بالأسود،
يتصارعون من أجل السّمر
حسبهم يقتلون الوقت
وينسون همومهم مع القدر
لقد جرت هذه الّلعبة في عروقهم
مجرى الدّم فلم يستطيعوا أن يتركوها لبعض الوقت بل أدمنوا إدمانا شرسا
فهضموا وقتهم الثّمين وهدروه هدرا
ضاع في غياهب الأزمنة المتلاحقة والمتسارعة سرعة السّحاب الرّاكض
دون هوادة ولا انتظار.
باشرت انتقالي وسط الزّحام علّني
ابتاع شيئا للغداء والعشاء
طاولات مرصوفةعليها شموع
أشكال وألوان تخطف البصر بخور..حنّاء..بالونات..حلويّات..
مكسّرات وعلب سكاكر
ومن الجهة المقابلة لحوم و دجاج
حتّى البلدي منه أمام أطفال
بسرابيلهم الرّثّة يقلّبون أعينهم
مترجّين بعض الأحرار
أن يشتروا منهم
ويفرحون أهل الدّار
عرفت عندها أنّها ليلة المولد
وهذه بعض العادات
الّتي مازالت رغم نقصها
تصارع منّا الكبار
ارتاحت السّماء قليلا
أمسكت محاجرها
بزغت الشّمس بتاجها
في كبد السّماء نثرت تبرها
مع قليل من الدفء
صدحت جوقة عصافير الدّوري مرحة،مبتهجة،مسبّحة للواحد الأحد
قوس قزح هو الآخر
أطلّ بإطلالة ألوان الطّيف
مباركا هذا اليوم مفاخرا
عند باب العمارة المهترئة
لقيتها جالسة بأسمالها البالية
رضيعها في حضنها
قد أخفت رأسه برداء
وهو يمتصّ مابقي
من جسمها النّحيل
ووجهها الشّاحب العليل
كورقة الخريف المسّاقطة
انعصر قلبي عصرا
وانكوت نياطه تاركه
شروخا في صدري لآلام لا تندمل.
تركت لها ما ابتعته
أفرغت جيبي من بقايا بعض المال
صعدت السّلّم بسرعه
ودعائها وتضرّعها يملأ مسامعي.
أخرجت المفتاح..بالكاد فتحت الباب
صريره المفزع نبّهني من خيالاتي
لهذا المنظر البائس
والبرد القارس
و الأرواح المعذّبة.
نزعت معطفي وقبّعتي
علّقتهما على المشجب
،هرعت إلى مكتبي
تناولت قلمي وعلى وجه دفتري
دوّنت جملة زاحمت أفكاري
” الشّتاء ليس رومنسيّة وتمتّعا بالنّظر
إلى القمم المكتسية بالتّيجان المبهرة
ولا تجوالا بين التّلال والهضاب المغطّاة بوشاح الثّلج المونق”
وشذى بعض الزّنابق
تنفّست الصّعداء
خطوت خطوات
باتّجاه النّافذة كالعادة
اسودّت الدّنيا
تكدّر الجوّ مرّة أخرى
عمّ السّكون..سكنت الأطيار
لم يبق في الخارج غير زوج من الغربان التقطتهما عيناي وهما ينعقان
فوق شجرة الصّفصاف
المحاذية للعمارة
تعرّت من ثوبها
فبدت شبحا مخيفا.
رجعت ثانية صوب مكتبي
جلست متهالكا متعبا
دوّنت مرّة أخرى
” الشتاء رحمة والدّفء ليس نّار
نسطل حولها ونسمر
الدّفء دفء القلوب والمشاعر.”
تركت قلمي يرتاح من نزفه
والقرطاس من ثقله
جعلت من ساعديّ مخدّة
لرأسي المتعبة
فوق سطح المكتب
ورحت في غفوة لذّكريات
وأصوات الطّفولة
وهدهدات الذّكريات
مع تثاؤب الجدّة
وعبر الحكايات
فيالها من حياة
ويالها من ملذّات
مع السّذاجة والبساطة
وكثرة الإبتسامة والضّحكات
نحلم دوما أن نطير
كما الفراشات والعصافير
والبراءة طيفنا
مع ظلّنا نلعب
وهو يحري يتبعنا
من دون كلل ولا ملل
عشنا الحبور والمرح
كبرنا وكبرت همومنا
وكلّت سواعدنا
وشلّت أقدامنا
وماعدنا ننام باكرا
واسودّت الدّنيا
وقلّ كلامنا
نبكي في صمت
ولا أحد يسمعنا
مرّ قطار عمرنا
سريعا ولم نشعر
ليته يرجع يوما
فنبكي ونتذكّر
أيّاما مع الأحباب
ومع من فقدناهم
نحضنهم بدمع منهمر
لتشفى عللنا من لوعة
الشّوق المستعر
أضف تعليق