
International pens newspaper
انه لا يستطيع أن يؤكد ذلك
قصة قصيرة
علي حداد
الاهداء
الى رجاء حداد… زوجتي…
وألى كل من يصيبه الحزن والأسى..
إذا مارأى غزالاً يعرج في مشيته…
الاهداء: إلى عباقرة هذه الايام ..فقط إعتبروا أن هذا العبقري .. بريء منكم
كان شهر تموز يغريني بالاسترخاء والكسل…. والتأمل.. وممارسة حقي في أحلام اليقظة.. والذهاب الى الحمام أكثر من مرة.. والتفرج على التلفزيون.. لست مغرماً بهذا الجهاز.. لكن ماذا افعل بعد ان أكون قد طالعت نصف كتاب او أقل فضلاً عن صحف الصباح.. وفي شهر تموز ايضاًَ تزداد عدم رغبتي في التدخين.. لكني أتناول بدل منها المرطبات.. في هذا الشهر لا أرغب في اي شيء.. حتى الأفلام التي أشاهدها تبدو سخيفة.. ومنفعلة أكثر من اللزوم… شيء واحد يدفعني اليه شهر تموز هذا.. بعد أن نفد كل شيء عندي..
وهو قبول دعوة عمي وزوجته الى حفل ساهر..:-
أنها حفلة رائعة تضم مجموعة دسمة من مشاهير رجال الاعمال والمجتمع..
- عندما أدعوك أيها السيد اللعين.. لا تنظر الى جهازك الــ..
حسناً، سنجد الفرق بين الجهاز.. والحفلة.. واوجه الشبه بينهما.. وشهر تموز!
أول ما صدمني وجعلني أكره غرفة مكتبي.. و.. و.. هي تلك الاشياء الثمينة، وعظمة صالة الضيوف باثاثها الثقيل.. وثرياتها المعلقة.. وكأنها كواكب عملاقة.. أوه.. يا الهي.. الأقداح.. كنت أخشى ان أحملها.. وكانت سكرتي مشوشة بفعل المجهود الذي كنت ابذله في المحافظة عليها.. وكذلك المدعوون لهم شيء رائع من ملامح العظمة والعبقرية.. والأخلاق . الملفتة للنظر.. اختلطت في أنفي ساعتها الكثير من الروائح والعطور.. وشاهدت الكثير من الأزياء.. والأحذية….. والذهب.. والساعات.. وأنواع لم أشاهدها في حياتي من السكائر.. ومختلف الاصوات.. والنبرات.. والضحكات كانت تمتع طبلة أذني.. رأيت رجالاً من كل نوع.. كما رأيت هناك اشكالاً غريبة للبطون السمينة.. والمنتفخة بفعل فاعل.. وأحدهم كان يمتلك بطناً تشبه الى حد كبير بطن الكنغر وهو يحمل طفله.. وهناك.. اكتشفت أن أذني .. قد اهملتها فعلاً.. الجميع آذانهم نظيفة..لكن واحدا منهم فقط اضفى على هذا المنظر شيء من الاختلال.. اذ كانت اذناه قريبتي الشبه بأذني الحمار.. ان لم أقل اطول بقليل.. لكن الحق يقال.. الشعر الذي كان في داخلهما، اسودا وطويلا ونظيفا.. ذكرني بشعر الــ…!
كان الرجال والنساء يقفون مجاميع.. مجاميع.. تسكن في ايديهم كؤوس ممتلئة بشراب لم اذقه ابدا.. وقد فكرت أن آخذ زجاجة الشراب حين تفرغ وأضعها فوق جهازي.. (كمزهرية)!
كنا نقف أنا وزوجتي وعمي وزوجته وثلاثة من اصدقاء عمي وزوجاتهم ايضا ..واحدهم وهو القصير كان يردد دائما.. - منتهى الروعة !
ولا ادري ما الذي يرمي اليه.. ربما لأن تموز انتهى في الصالة.. كان الهواء بارداً نقياً يحمل الى أذني شتى المواضيع، مناقصة، حفلة ازياء، شراء الف طن من الاسمنت.. هذه الصفقة لم تتم كما سمعت.. وأحدهم كان يتوسط المجموعة لا أعرف عددهم لانه كان خلفي مباشرة.. وكان يحدثهم عن فريد الاطرش ومأساة موته.. وآخر كان يحدث مجموعة اخرى عن الحياة في امريكا، فيلم رآه على جهاز الفيديو. أنا رأيت الفيلم نفسه أيضا.. لكنه كان يبالغ قليلاً.. بيد انه راح يغالي أكثر ما أن يرى علامات التعجب والانبهار تتسع على وجوه مستمعيه.. وامرأة تهمس لزوجها - ان الزينات الموجودة في الصالة هي زينات كاذبة.. وليست اصلية.. لأنه من غير المعقول أن.. !
لكن ما شدني بين هذه المجموعة الغفيرة .. وما حمله الهواء البارد من احاديث شتى.. هو ذاك الذي كان يقف خلفي ويتحدث عن فريد الاطرش.. حديثاً من النوع (وأنا متأكد من هذا ) الذي لو عشت الف عام لما سمعته أبداً.. حتى لو أتاح لك الزمن وعملت رحالاً.. وسأخرج عن متطلبات سرد القصة وأسلوبها لأنني أريد ان انقله لكم نصاً وبلا تحريف..نقلاً حياً وبكل ما فيه من.. السردية.. والمنطقية.. والعلمية.. لعلكم تستفيدون مثلي.. وخير الناس من نفع الناس!! - الموت أخذ منا رجلاً عظيماً.. لم يخلف ولداً ولا بنتاً.. عاقراً.. تصوروا!!
- وأم كلثوم، وعبد الحليم، لم يخلفا ايضاً.. العظماء هكذا دائماً.. بالضبط..
- أصواتهم رائعة.. حتى بدون موسيقى.. قديماً كانت الموسيقى خفيفة جداً.الاغنية فقط تستمتع بها الاذن ..وليس الفديوكليب ..
- بالضبط .. لأنهم كانوا يعتمدون بالدرجة الاولى على حناجرهم الذهبية و..
- الحقيقة..أنا أعتبر الموت خرافة كبيرة في هذه النقطة!!.
- انها بادرة ذكية جداً يا سيدي.. ولا أدري لماذا يعدون الغوريلا خرافة!.
وسمعت شيئاً أشبه بضربة خفيفة على البطن - بحكم عملهم في علم الحيوان.. في العام 1968 أنا بنفسي رأيت بأم عيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود.. علم الحيوان.. تصوروا.. في الخارج حتى للحيوان علم..
- ها.. ها.. اين انت.. للنبات علم.. علم النبات.. جامعة كبيرة رأيتها هناك في العام 1958 مكتوب عليها علم النبات..
- اين تعلمت اللغة ؟
- ترجمها لي صديق.. قبل ان اتعلم اللغة.. لأني تعلمتها في العام 1965.
- يقولون ان الايطاليون يعلمون اللغة.. أعني ان شعبهم ثرثار.. يعلم السائح اللغة رغماً عنه.. ثرثارون جداً.. الى حد الازعاج هل هذا هو الواقع؟
- لا يستطيعون السكوت.. بالمناسبة كان الفلاح الذي يعمل عندي رجلاً ثرثاراً .. وحين خلع ضرسه أوشك أن ينفجر..
- طبعاً مؤلم هذا الموضوع.. الضرس مؤ..
- أوه.. أظنك ستقول من الألم، وهذا ما حدث.. كلا.. لأنه ظل ساكتاً نحو ست ساعات..
- لكن خلع الضرس مؤلم جدا.. لاجدال في هذا الموضوع.
- انا خلعت ضرسي بدون الم.. أظنك ستقول انه دكتور بارع أو قلعته في الخارج؟ كلا أنه (مضمد عادي..) وللمزيد من المعلومات انه ختان اطفال..
- ختان عجيب؟.. اوه كلا..انها مهنة سهلة.. الحلاقون كانوا يمارسون هذه المهنة!
- ذكرتني .. بالمناسبة هو حلاق ايضاً .. اقسم لك انه حلاق.. حلاقة الاخوين في مدينة البياع المنطقة الاولى……………
- انظر لابد ان يكون حلاقاً .. أنا اعرفهم جيداً.. هذه طبقة ممتازة، شجاعة.. ونادرة الوجود في هذه الايام..
- تختفي طبقة.. وتظهر طبقة اخرى!
- وهذا هو الواقع، بالضبط.
- لكن الطبقة التي تظهر تفي بالغرض.. بحيث لا تؤثر الطبقة التي تختفي على سير الحياة ومتطلباتها العديدة. لانك ادرى من غيرك ان للحياة متطلبات عديدة ومنغصات مثلها!
- بالضبط!.
- تذكر.. قديماً كانت طبقة تعمل بالاشياء المستهلكة والقديمة.. والاجهزة الكهربائية القديمة.. والطباخات القديمة.. والاحذية العتيقة وكانوا.. يصيحون في الازقة (طباخات عتيقة للبيع.. راديوات عاطلة للبيع) بين الازقة الضيقة.. أتذكر ذلك؟
- أتذكرهم.. أذكرهم .. بالضبط.. كانوا رائعين .. طبقة تراثية.
- الحقيقة، لا نستطيع ان نؤكد ذلك.. أظنك ستتعجب، لا داعي لذلك ابداً!
- عجيب.. ولماذا؟
- لأن الطبقات يا سيدي تأتي بفعل العامل الاقتصادي وتختفي بنفس المؤثرات والعوامل!
- وهؤلاء .. بالضبط مارسوا هذه المهنة نتيجة العامل الاقتصادي .. لكني مصر كونهم طبقة تراثية!
- أنا أخبرتك..مسبقاً.. لا لوم علي.. بأني لا استطيع أن اؤكد ذلك! لأنهم ليسوا فولوكلوراً.. الفولوكلور تراث.. و..!
وعلى حين فجأة تغير الحديث، عرفت بعد ذلك من خلال الاصوات ان وافداً جديداً قد حل بينهم.. فسلم على العبقري الآخر.. بينما ضحك الرجل الذي لم تسمح له الظروف ان يؤكد، وهو يقول مرحباً:- - أهلاً .. أهلاً أظنكما تعارفتما من قبل.. كنا قبل قليل نتحدث عن فريد الأطرش!
والتفت الى العبقري صديقه وقال مؤكداً هذه المرة:- - إنه يعشق فريداً الى حد كبير ويقلده.. لكن هذه هي الحياة، تأخذ منا العمالقة ولا تبقي غير الأقزام. الحياة خرافة كبيرة!!
وأنتقل مباشرة الى سؤال كبير وجهه الى الوافد الجديد:- - هل أمطرت.. في الخارج؟
أجاب الوافد الجديد مندهشاً:- - كلا، انه تموز.. هل نسيت؟
- لكن سترتك مبللة قليلاً
- انسكب عليها قليل من عصير البرتقال.. انه تموز يا رجل..!
- كأنه المطر..!!! يا الهي كأنه المطر..
وأوشكت أن اتقيأ .. اعتذرت من عمي وشلته وسحبت زوجتي بلطف.. معتذراً بأني.. قد سكرت ومعدتي تؤلمني.. ومشيت..
و في الطريق الى الباب الخارجي.. لكن بقية صوته جاءتني كاملة:- - في العام 1975 وفي ليبيا امطرت السماء في شهر تموز!!
وتوقفت قليلاً ..كنت أريد رؤيته على الاقل.. لأهدأ من ثورتي.. وأنا أرى اذنيه الطويلتين، ذات الشعر النظيف.. تضربان على جمجمته بشكل خرافي.. كغوريلا!!
أو كفيل افريقي اتعبته السمنة..
رأيته بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود..ان عاجلاً ام آجلاً..
أضف تعليق