رذاذ مطر ناعم ..

جريدة الأقلام الدولية
International pens newspaper

رذاذ مطر ناعم


عبدالقادر محمد الغريبل


أنت وحدك تتعلم أن تمشي كرجل وحيد ،أن تتسكع بين شعاب الحياة ومنعرجاتها دون رفقة،أن تجر قدميك، تدوس بلا هدى بلاط الأرصفة وأنت ترى دون أن تنظر،أن تنظر دون أن ترى،تتعلم باصرار أن لا تقوم بردات أفعال ،عدم إتخاد قرارات ،تتعلم أن تظل جالسا ككرسي شاغر ،أن تظل مضطجعا كسرير ممدود ،تتعلم أن تجلس القرفصاء دونما حراك ،أن تظل واقفا كتمثال منصوب،تتعلم أن تنظر إلى اللوحات كما لو كانت جدران أو سقوفا،وفي الجدران كما لو كانت لوحات فنية بديعة ،تتابع فيها بلا كلل متاهات يضيع كل من سقط بين دهاليزها ، تقرأ نصا مغرقا في الغموض ،وجوها قيد التحلل، تتغلغل في أزقة المدينة، تأخذ وجهتك نحو شارع ما ،تمضي نحو زقاق آخر ،دونما هدف ……ترجع على أعقابك ملاصقا لواجهات المتاجر الكبرى ،تمضي لتجلس على أفريز الجسر تراقب اندفاع وانحسار النهر تحت القنطرة ،تصغي بانتباه تام اضطراب الماء المرتطم بالأعمدة،يثير انتباهك عزم واصرار صيادين على مراقبة حركة شباكهم أو جذب صناراتهم ،اهتزازات مراكب الصيد على أديم النهر،تسير بمحاذاة سور إقامة سكنية ، تجلس على مقاعد خشبية ذات قوائم من حديد مصبوب منحوتة على هيئة حوافر خيول بحديقة عمومية، مسنون مندمجون في لعبة الورق يآزرهم حماس وهتاف مشجعيهم ، بطرف حذائك ترسم على الأرض قليلة الرمل دوائر،مربعات، حروف ،طفت دائريا بأسوار المقبرة،مررت ببعض الميادين العامة ، جلست على حافة النهر،طفت كل الأسواق،سوق شعبي ..سوق السمك،سوق المتلاشيات ..محطة المسافرين، مراقبة أوقات خروج الموظفين من مكاتبهم ، مشاهدة مباريات كرة القدم بملاعب القرب في الأحياء الشعبية،ساعة الذروة وهرولة المارة نحو أبواب الحافلات، شبابيك القطارات، سيارات التاكسي، مرابض السيارات في سباق محموم مع الوقت،
في جو خانق مشبع بأبخرة مداخن المصانع و عوادم السيارات تنتابك نوبات سعال حاد تشعر باحتقان واختناق،شيئا فشيئا تستعيد قوة تنفسك الذي له امتداد عبر كل وقت،عبر ساعات أيام فصول،تنفض يدك من كل شيء،اكتفيت من أمور لا تستحق العناء
تكشف أحيانا بما يشبه الثمل،أن لا أمرا يثقل عليك لا ميلا ولانفورا تكييف حياة غير متآلفة وخالية من نبضات السعادة ، وماعدا تلك اللحظات المغلفة بفقاقيع فرح مؤقت ،تعيش داخل هامش سعيك للعيش في فراغ ماحق وكآبة سقيمة لا تتوقع حدوث شيء جميل ،أنت غير مرئي أو ربما شبح،تلاحق ساعات،تلاحق أيام، مرور فصول، جريان الزمن، أنت على قيد الحياة فقط دون بهجة مستمرة ولا حزن دائم، دون مستقبل واعد، لا ماض طواه النسيان هذا ببساطة تامة،بوضوح كامل مثل قطرة ماء بلورية تتجمد في صنبور،في خزان كبير، على مصطبة عدم الاكتراث بمرور الوقت تفقد كل حماستك تحل محلها برودة طاغية ، عيناك فقدتا كل ما كان يبعث فيهما الألق،البريق،هيكلك تقوس بعض الشيء، قامتك انخسفت قليلا ،كرشك ترهلت ، وجهك تجعدت قسماته ، في أعماقك قبعت بعض المرارة، في زاوية شفتيك ارتسمت ثمةابتسامةباهتة،تنزلق الأيام من رزنامة التاريخ، على اللمس أصبحت مستعصيا، ولو تلويحة تحية، خطواتك تقوم بحياد لم يعد لديك إلا حركات مدروسة لم تعد تنطق إلا بكلمات ضمن مجاملات لا تتجاوز حدود اللباقة، لا تقول أبدا من فضلك، صباح الخير، شكرا إلى اللقاء،لا تحيد عن طريقك، تجر قدميك تمشي، جميع اللحظات متساوية، جميع الأماكن متشابهة، كل ما يصادفك لا يعدو كونه شيئا مألوفا ، لست أبدا على عجل، لديك متسع من الوقت ، تستسلم للتيار تتركه يجرفك كليا بقوة ورعونة.
..يتبع

أضف تعليق