اللقاء الموعود… قصة قصيرة
بقلم/ منتهى صالح السيفي
حلمٌ طالما راودني، أرهق فكري وقض مضجعي، أختزل حياتي كلها وإختصرها في أُمنية واحدة لا غير ، وهي أن أشد الرحال إلى مسقط رأسي، ملاذ روحي الحيرى، ونبض قلبي المكسور، إلى الديار، إلى وطني العراق.
موطني هذا الذي إختلطا بترابه دمي ولحمي، بعد أن نقشت رسمه على صدري طوال حياتي.
حينما يشتد بيَّ الشوق والحنين إليه، أتلمس حدود خارطته الذهبية، أتهجأ حروف إسمه المقدسة، أنحتُ صورته في أحلامي من جديد.
في كل تلك اللحظات كان قلبي الرقيق المنهك يخفق كجناحي طير ذبيح يبغي الرحيل مع ذكرياته قبل جسدي ليقبل تراب المُستقر.
يومٌ مشرق عَلتْ فيه الشمس إلى كبد السماء، بقلبٍ عسكره الشوق والتوق واللهفة قررت أخيراً أن أكسر حواجز الصوت والمكان والزمن كلها مرةً واحدة، وأبتاع تذكرة سفر ذات سعر مناسب إلى بغداد قلعة الأسود.
ما أن مرقت أيام معدودات حتى أزفت لحظة الحقيقة التي طال إنتظارها، وقرب وقت الرحيل.
لم يتبق إلا وقت قصير حين بلغ بيَّ الإنهاك غايته، وأخذني الوسن بقوة، وأنا أجلس في مقعدي الدافيء في صالة الإنتظار، حتى تقلع طائرتي من مطار هولندا المتجهة نحو بلد السلام، إلى مرابع النخيل، إلى صومعة الأنقياء وموطن الشمس الدافئة، إلى أهلي الأتقياء وأبناء حارتي الطيبين، إلى زوايا بيتي التي كانت يوماً ما دافئة بقلوب ساكنيها.
في الطائرة إتخذت مقعدي قرب النافذة، وأنا أتفرسُ بما يجري بقلب عاشق ولهان يتطلع للقاء الحبيب، كاد النوم يأخذني مرة أخرى إلا أن خيالي أفكاري وخططي عن بقايا الزمن الذي مضى في ديار الغربة خطفني منه ولم يدعني أسقط في سلطانه، وهمست في نفسي: (يا الله .. رحماكَ وعطفك اللامنتهي. شكري الفائق وإمتناني الوافر لك ولكل من ساعدوني، آووني، إحترموا آدميتي وقدموا لي كل سبل العيش الكريم خلال كل هذه السنين، التي قضيتها في هولندا، هذا البلد المعطاء).
وأنا في خضم صراع روحي وتلاطم أمواج أفكاري وفرحي ولهفتي، جلست إلى يميني إمراة سمراء جميلة في مقتبل العمر يبدو عليها الترف والدلع، بينما جلس إلى جانبي الأيسر رجل في بداية عقده السابع، شعره الفضي مُصفف بطريقة عصرية، وتبدو على محياه ملامح هولندية بحتة، نظراته تدل على الحزم والذكاء، كان يمسك بهاتفه ويتحدث همساً ويلقي لمحدثه على الجانب الآخر ببعض الكلمات الهولندية من خلال سماعة التلفون.
ما أن إستقر في مكانه حتى أدار رأسه نحوي، نظر إليَّ بعيينيه الثاقبتين مباشرةً كأنه ينوي الغور في أعماقي ودراستها، بكل لياقة وتهذيب سألني بلغة عربية لكن بلهجة بغدادية قُحَّة:
– أسف يا سيدتي الفاضلة … هل أنتِ عراقية؟
كانت مفاجأة كبيرة لم أتوقعها أبداً، إذ أني إعتقدته هولندي الجنسية، أربكتني مبادرته الطيبة وأدخلتني في بحور السعادة، حيث راودني إحساس لذيذ، بأن رحلتي ستكون رائعة وممتعة، لاسيما وأنا أتحدث مع هذا الرجل المهذب حلو المعشر بلغتي التي أعشقها وأهيم في تفاصيلها، حين اتذكر العبارات التي يرددها العراقيون دوماً ومنها؛ “شكو ماكو” ، ‘لك داد”، و ”شلونك عيوني”، ” الله بالخير”، وأسرت نفسي (فدوة أروح لحجايات بغداد وسولفها).
ما أن إنفصلت عجلات طائرتنا عن أرضية مطار، حتى إرتفعت الطائرة بسرعة وأقلعت في الجو ثم إتخذت مسارها نحو بغداد، وسرعان ما أخذ الرجل الطيب مبادرة الحديث بصوتٍ غاب عنه رنين الحياة، حدثني عن أهداف سفره وتطرق إلى معاناته في الغربة، وكيف هاجر من بلده العراق إلى هولندا، بعد أن فقد عائلته وأهله جميعاً وحتى جيرانه، إثر إنفجار لئيم وقع قرب بيته، أودى بحياة الجميع وجعله يتيماً في الحياة.
احسستُ وكأن جراحاته ما زالت تنزف دون توقف، شعرتُ بألمه الذي لم يستطع تجاوزه رغم مرور حقبة كبيرة من الدهر.
في لحظةِ إشراقٍ أدركتُ أنه كان يتحدث إلي بألم عميق، بدا وكأنه ينكمش وينفذ في ظلهِ، لقد ضربه يُتّمهُ العائلي كما أضنته الغربة اللعينة وبعد لحظات وكأنه شرد بفكره إلى عالم آخر، وأخيراً قال:
- بعد تأمل وتفكير عميقين، قررت أخيراً العودة الى الديار ، إلى بلدي الذي لفضني بعد أن جعلني يتيماً وحيداً متهالكاً.
طأطأ رأسه إلى صدره وقال بصوتٍ خفيض لا يحمل أيٍ من انواع الطاقة وقال:
- سأعود إلى بغداد السلام، التي لم ترَه أبداً، بغداد التي لم نشعر بالإستقرار إطلاقاً فيها، سأعود إلى بيتي، الذي أرغب أن يوارى جسدي فيه، بغدادي أم الحضارات والأمجاد التي لم تحتضن أبناءها.
تابع العراقي حديثه دون مزاج، بعد ما رأى قلق نظراتي ولهفتي التي يسبقها عبق تفكيري في وطني الحبيب وإستزاد:
- طوال هذه السنين مارست العمل الإنساني في منظمات الصليب الأحمر لإغاثة الأطفال والنساء وكبار السن، أحسست هنا في هولندا بغربة قاتلة تنهش أعماقي وتفتك بروحي، لذلك أرغب أن ينتهي بي المطاف في أحضان بلدي الأم العراق الحبيبي.
مرت الساعات ثقيلة بالنسبة للرجل العراقي، إلا أنها كانت بسرعةِ صاروخٍ تمر من أمامي، وما إلا دقائق حتى حطت الطائرة وقبلت أرض بغداد التي لم تستقر أبداً.
ما أن لامست عجلات الطائرة أرضية مطار بغداد الدولي حتى شرع الجميع بالهمهمة ثم التصفيق وتعالت تلاوات الصلوات والتحمد على السلامة.
بعد عدة إجراءآت تفتيش روتينية تختلف كلياً عما كيف تجري في مطارات الدول المقدمة، تخطيت بوابات المطار لأصبح في أحضان مدينتي الحبيبة.
إستأجرت سيارة أجرة سرعان ما إتجهت بي إلى ضاحية الدورة، كان الشوق يعصف بي، وقلبي يخفق بقوة إلى رؤية بيتي وغرفتي وأشيائي وذكريات طفولتي وشبابي.
تسير السيارة بي تنهب الأرض وأنا أجلس ساهمة لا أصدق أني أصبحت في بغداد، التي طالما حلمت بها في .
لم أنم تلك الليلة إلا لماماً في إنتظار حلول الصباح؛ كي أسعد بلقاء الحبيبة بغداد.
حل صباح بغداد وأشرقت الشمس وأنارت الدنيا بشعاعاتها الذهبية الدافئة، التي إشتقات لها عظامي وروحي، تناولت إفطاري على عجل، حزمت حقيبتي الصغيرة، التي لا تفارقني أبداً وخرجت كالسندررلا لحظة لقاءها الأمير الموعود.

أضف تعليق