ثقافة والمهجر هوية تتجاوز الزمان والمكان .

ثقافة والمهجر هوية تتجاوز الزمان والمكان .


ليث عبد الغني


على مدى عقود، لم تحمل حقائب المهاجرين العراقيين مجرد ملابس أو وثائق سفر، بل حملت ذكرياتهم، وتراثهم، وعبق حضارة عريقة. في كل مدينة أوروبية أو أمريكية أو إسكندنافية، ثمة زاوية عراقية تتنفس فيها روح الوطن: مقهى يذكّر ببغداد، أمسية شعرية تعيد سرد حكايات الناصرية، لوحة تشكيلية تلتقط جمال البصرة، أو عرض مسرحي يحاكي تراث الموصل وأربيل. لكن كيف تتحول الثقافة العراقية عند عبورها الحدود؟ وكيف تُعيد تشكيل نفسها في أرض الغربة؟

الهوية الثقافية بين الأصالة والاغتراب
واجه العراقيون في المهجر تحديًا مزدوجًا: اغتراب المكان واغتراب الذاكرة. فالثقافة العراقية، بثرائها اللغوي والديني والإثني، وجدت نفسها أمام مفترق طرق؛ حفاظًا على الجذور من ناحية، وانفتاحًا على المجتمع الجديد من ناحية أخرى. هذا التناقض لم يُضعف الهوية، بل أثراها، فأنجب إبداعًا يجمع بين الحنين إلى الماضي وتطلعات المستقبل.

في المهجر، برز جيل من الكُتاب والشعراء العراقيين الذين حوّلوا المنفى من محنة إلى منصة إبداع. و نقلوا هموم العراق من زوايا الذاكرة الشخصية إلى رحاب الأدب العالمي، محوّلين الألم الفردي إلى سردية جماعية تعبر عن أمة بأكملها.

الفن والمسرح: ذاكرة حية لا تُنسى
أصبح المسرح في دول المهجر جسرًا يربط الأجيال الجديدة بتراثهم، خاصةً عبر عروض الجمعيات الثقافية العراقية والعربية التي تروي حكايات الوطن وتُعرّف الآخر بهويتنا. وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال إسهامات فرقة “سومر” المسرحية في غوتنبرغ، التي أسسها عمالقة الفن العراقي مطلع التسعينيات، مثل الممثلة زينب والمخرج لطيف صالح، مع كوكبة من المبدعين الذين حافظوا على شعلة المسرح العراقي في المنفى.
رغم اندماج العراقيين في المجتمعات الجديدة، بقي التراث حيًا في حياتهم اليومية: في أطباق الدولمة والكبة، في ألحان الأعراس البغدادية، في تسمية الأبناء بأسماء الأجداد، وحتى في نظرات الحنين التي تلمع في العيون عند ذكر العراق. إنه تراث غير مرئي، لكنه قوي كالجبال، يربط الأجيال ببعضها.

الجيل الثاني: بين الانتماء والاندماج
يواجه أبناء المهاجرين سؤال الهوية بتعقيداته: كيف يكون المرء عراقيًا دون أن يطأ أرض العراق؟ هنا تبرز أهمية التربية الأسرية، والمبادرات الثقافية، ودور الحكومات العراقية في دعمهم. فهؤلاء الشباب، الذين يجيدون لغات متعددة ويحملون تخصصات نادرة، يمثلون كنزًا وطنيًا. لكن للأسف، تبقى معظم الوعود الاستثمارية فيهم حبرًا على ورق، تذروها رياح الإعلام ثم تختفي.

الثقافة العراقية في المهجر ليست ظلًا للوطن، بل شعلة متجددة تثبت أن الهوية لا تُقتلع من الأرض، بل تُزرع في القلوب. وهي، رغم كل التحديات، تبقى شاهدًا على أن العراق ليس مكانًا على الخريطة، بل روحًا لا تموت.

أضف تعليق