قد يكون المرض النفسي سياسيًا .

قد يكون المرض النفسي سياسيًا

شموخ فهد الشمري

ليست النفس بمعزلٍ عن العالم. إنها كائن هشّ يسكن في قلب البنى الاجتماعية، يتنفس من هواءها، ويغتذي من خطابها. ولذا، فإن المرض النفسي لا يمكن فهمه دومًا كخلل كيميائي بارد أو اضطراب عصبي صامت، بل أحيانًا كصرخة مكبوتة ضد عالم مختلّ، كأثرٍ مباشر أو غير مباشر لسلطة سياسية تمارس قمعها لا على الأجساد فقط، بل على الأرواح.

في لحظة ما، يصبح الاكتئاب فعل مقاومة غير معلن. يصبح القلق رد فعل طبيعيًا على واقع عبثي، تُجرَّد فيه الذات من قدرتها على الفعل والتأثير. تصبح الهلاوس أحيانًا ترجمة مشوّهة، ولكن صادقة، لواقعٍ أشدّ جنونًا من كل ما يتصوّره المريض.

لقد بيّن ميشيل فوكو أن “الجنون” لم يكن دومًا تعريفًا طبيًا، بل ممارسة سلطوية. فالذي يُسمّى مجنونًا هو غالبًا من خرج عن النظام، من رفض القواعد، من لم يتكيّف مع ما تفرضه السلطة باعتباره “طبيعيًا”. في هذه الرؤية، يصبح المرض النفسي ليس فقط حالة فردية، بل قرارًا سياسيًا، أو على الأقل نتيجة لبنية سياسية تحاصر الإنسان من كل الجهات.

الأنظمة الشمولية، مثل السوفييت، لم تسجن كل المعارضين في الزنازين؛ بل في كثير من الأحيان، صنّفتهم مرضى، وأخضعتهم للعلاج القسري، وكأن رفض السلطة ليس رأيًا بل خللًا في الدماغ. هذه ليست حالات شاذة؛ إنها تكشف عن قابلية الطب النفسي لأن يُستخدم كأداة هيمنة، ناعمة حينًا، عنيفة حينًا.

حتى في الأنظمة النيوليبرالية، حيث الفرد يُقدَّس على السطح، يُحمَّل الإنسان مسؤولية اضطراباته النفسية بالكامل. يُقال له: “تأمل، مارس الرياضة، ابتسم”، بينما يُسحب من تحته دعم الدولة، وتُفكّك شبكاته الاجتماعية، ويُلقى في سوقٍ لا يرحم. يصبح الفرد ضحية وحَكمًا في آنٍ واحد، يُحاسب على عجزه عن التكيّف مع نظامٍ يعاني هو ذاته من الاختلال.

وهكذا، يمكن القول إن المرض النفسي ليس بالضرورة “شخصيًا”، بل في كثير من الأحيان هو سياسي، سواء في أسبابه، أو في طريقة التعامل معه، أو في نتائجه. إنّه مرآة تعكس وجه السلطة، لا في قصر الحكم فقط، بل في أعماق الذات.


أضف تعليق