
الإنسان الغراب… حين يتحول الحقد إلى مهنة .
سامي الفارس
يحرص الأنسان أن يعيش حياته بسلام وإطمئنان ولكن
في زوايا الحياة، ستلتقي بأشخاص لا يحتاجون إلى سبب وجيه ليغضبوا منك، ولا ينتظرون موقفًا سلبيًا حقيقيًا ليحملوا عليك الضغينة والحقد الظاهر والدفين. يكفي أن تلتقي بهم أو تمرّ في طريقهم، أو تنجح في مجال لم يوفقوا فيه، أو أن تبتسم لك الحياة في وقت لا يناسب مزاجهم، ليقرروا أن علاقتهم بك قد انتهت، وتبدأ مرحلة الكراهية.
هؤلاء قد يكونون أصدقاء، أو زملاء عمل، أو جيران، أو حتى من أقرب الناس ، قد يكونون أشخاصًا كنت سببًا مباشرًا في نجاحهم وساعدتهم في أصعب أوقاتهم ، نحن لا نكتشف حقيقة مشاعرهم إلا في لحظات النجاح، حيث تكشف لنا الظروف عن مخزون الحقد الذي كان يختبئ في صدورهم منذ البدء .
المزعج في الأمر ليس حقدهم الشخصي، بل قدرتهم المدهشة على تحويله إلى عدوى اجتماعية. فجأة، يريدون من المجتمع كله أن يشاركهم الكراهية
” صدقوا روايتي، واغضبوا لغضبي”. وهكذا يصبحون أشبه بموظفين في دائرة خاصة من دوائر الكراهية والإنتقام لمن لايصدقهم ، مهمتهم نشر البغض والمشاكل في المجتمع .
هذا السلوك البشري الغريب يذكرنا بكائن آخر من عالم الطيور: الغراب.
هذه الطيور السوداء ليست كما يظن البعض مجرد كائنات تنعق في السماء، بل هي من أذكى المخلوقات على وجه الأرض وقد ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم كان الغرابُ معلماً للبشرية في الآية 31
من سورة المائدة ،: “فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ”.
على رغم من امتلاك الغراب صفة الذكاء ولكنه يمتلك ذاكرة قوية حاقدة لاتنسى من يسئ لها
. في جامعة واشنطن، أجرى الدكتور جون مارزلف تجربة علمية فريدة: ارتدى هو وفريقه أقنعة محددة، واقتربوا من الغربان بأسلوب مزعج، حتى ارتبطت هذه الوجوه في ذاكرة الطيور بالتهديد. بعد ذلك أطلقوا سراحها، وبدأت المراقبة.
النتيجة كانت مذهلة: الغربان حفظت ملامح تلك الوجوه، وأطلقت أصوات التحذير كلما رأتها، حتى بعد مرور أكثر من عشر سنوات. بعض الدراسات قدّرت أن هذه الذاكرة قد تدوم سبعة عشر عامًا كاملة. والأكثر إثارة أن الغربان لم تكتفِ بالتذكر، بل نقلت المعلومة إلى أفراد لم يشاهدوا الحادثة من قبل. يكفي أن يكون أحد الغربان قد حضر الموقف، ليحذر البقية، فيصبح كل غراب في المنطقة يعتبر ذلك الوجه عدوًا.
التشابه بين “الإنسان الغرياني” والغراب واضح، مع فارق جوهري: الغراب يحتفظ بذاكرته بدافع البقاء والحماية، بينما كثير من البشر يحتفظون بالحقد بدافع الغيرة، أو الحسد، أو سوء النية. الغراب لا يهاجم إلا إذا شعر بالخطر، أما “الغرياني” فقد يهاجمك لمجرد أنك نجحت، أو لأنك لم تخضع لسلطته النفسية.
الخطر في هذا النمط من الأشخاص أنهم لا يكتفون بحمل الكراهية في قلوبهم، بل يحولونها إلى حملة منظمة ، حتى يجد الشخص نفسه متهمًا بذنوب لم يرتكبها بل نسجت من خيال غرباني مريض
لكن الحل ليس أن نصبح مثلهم. فالحقد يتحول مع الزمن إلى سجن داخلي يحبس صاحبه في دائرة الإنتقام.
الغراب ينسى إذا زال الخطر، أما بعض البشر فيفضلون إطالة الحرب حتى لو خسروا كل شيء في سبيلها، وربما يموتون دون أن يسامحوا، فقط لأنك كنت ناجحًا.
التسامح لا يعني أن تتنازل عن حقك، بل أن تحرر قلبك من سمّ المشاعر والعلاقات السامة. أن تكون حذرًا دون أن تتحول إلى ناقل للكراهية. أن تحفظ درسك من التجربة، لكن دون أن تحمل ثقلها معك كل يوم.
في النهاية، الغربان تملك أدمغة ذكية وذاكرة حاقدة قوية، لكنها لا تعرف الغفران. أما نحن البشر ، فنملك الاثنين… فلنستخدمهما فيما يبني، لا فيما يهدم.
وللأنسان ان يُسامح ويعفو وهو فعل العقل، والعقل للفطناء والعقلاء.
أضف تعليق