حَدِيثُ قِطَارٍ غَابَ ..

حَدِيثُ قِطَارٍ غَابَ

رياض الشرايطي/ تونس

هَا أَنْتَ تَعُودُ إِلَى رَصِيفٍ لَا يَسْمَعُ سِوَى صَفِيرٍ مُتَقَطِّعٍ،
وَلَا يُجَاوِرُكَ غَيْرُ ظِلٍّ يَتَثَاءَبُ فِي زُجَاجِ النَّوَافِذِ،
تَتْرُكُ وَرَاءَكَ حَقِيبَةً مُثْقَلَةً بِالْهَوَاءِ،
وَتُعْطِي لِخُطْوِكَ بُطْئًا كَأَنَّهُ جُرْحٌ يَتَأَمَّلُ نَفْسَهُ،
تَمُرُّ الْعَصَافِيرُ،
وَ لَا تَحُطُّ،
تَتَرَدَّدُ مِثْلَ رِسَالَةٍ لَمْ تَجِدْ صُنْدُوقَهَا،
فِي الْبَعِيدِ يُلَوِّحُ بُرْجٌ مِنْ ضَبَابٍ،
كَمَنَارَةٍ تَبْحَثُ عَنْ سَفِينَةٍ بِلَا بَحَّارَةٍ،
كُلُّ مَا كَانَ مَوْعِدًا صَارَ وَهْمًا،
كُلُّ مَا كَانَ طَرِيقًا صَارَ فَرَاغًا،
وَأَنْتَ وَحْدَكْ
تُشْبِهُ الَّذِينَ حَمَلُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ
ثُمَّ أَضَاعُوهَا فِي زَحْمَةِ الِانْتِظَارِ،
صَوْتُكَ حَجَرٌ سَقَطَ فِي بِئْرٍ،
دُمُوعُكَ نَافِذَةٌ لَا تُفْتَحُ،
وَصَمْتُكَ وَحْدَهُ يَكْتُبُ سِيرَةَ الْغَائِبِينَ،
اللَّيْلُ يَجُرُّ مِعْطَفَهُ عَلَى السِّكَّةِ،
وَيَذْرُفُ نُجُومًا ذَابِلَةً كَرَمَادِ أَجْرَاسٍ،
فِي الْمَدَى عَرَبَةٌ بِلَا سَائِقٍ،
تَدُورُ عَجَلَاتُهَا عَلَى فَرَاغٍ لَا يُفْضِي،
تَضْحَكُ لِلرِّيحِ ثُمَّ تَخْتَفِي،
تَعْبُرُ بَيْنَ مَقَاعِدٍ خَالِيَةٍ،
تُصْغِي لِخُطُوَاتٍ لَمْ تَأْتِ،
كَأَنَّ الْأَرْصِفَةَ تَتَهَجَّى أَسْمَاءَ الَّذِينَ غَابُوا
تَفْتَحُ يَدَيْكَ فَلَا تَجِد غَيْرَ غُبَارٍ يُسَائِلُكَ:
مَنْ تُرَاكَ تَنْتَظِرُ؟
مَنْ تُرَاكَ فَقَدْتَ؟،
تَصِيرُ وُجُوهُ الْغَادِينَ مَرَايَا مُهَشَّمَةً،
كُلُّ ابْتِسَامَةٍ تُعِيدُكَ إِلَى أَوَّلِ الْرِّوَايَةِ،
حَيْثُ الْقِطَارُ وَعْدٌ لَمْ يَحِنْ،
وَحَيْثُ الرَّصِيفُ كِتَابٌ بِلَا صَفَحَاتٍ،
الْوَقْتُ الْآنَ مِثْل جِدَارٍ أَعْمَى،
يَلْتَصِقُ بِظَهْرِكَ،
يَدْفَعُكَ إِلَى بَابٍ مُوصَدٍ بِالرَّصَاصِ،
إِلَى صَدًى لَا يَشِيخُ،
وَ تَبْقَى وَحِيدًا فِي الْمَحَطَّةِ،
تَكْتُبُ بِعَيْنَيْكَ قَصِيدًا مَخْصِيًّا،
وَتَتْرُكُ صَمْتَكَ يَتَدَلَّى،
كَفَانُوسٍ يُضِيءُ لِلْغَائِبِينَ طُرُقَ عَوْدَتِهِمُ الْمُسْتَحِيلَةَ،
الْمَحَطَّةُ الْآنَ تَفْتَحُ فَمَهَا كَرَمْلٍ يَبْتَلِعُ الْوَقْتَ،
جُدْرَانُهَا تَتَنَفَّسُ مِثْلَ صَدْرٍ مَثْقُوبٍ،
وَالشَّبَابِيكُ تَغْفُو كَعُيُونٍ رُخَامِيَة فِي مُتْحَفٍ قَدِيمٍ،
الْخُطُوطُ الْحَدِيدِيَّةُ تَمْتَدُّ كَأَفَاعٍ عَطْشَى،
تَسْأَلُ الْمَطَرَ عَنْ قَطْرَةٍ لَمْ تَحِنْ،
وَتَتَقَلَّبُ فِي الْعَتْمَةِ كأَحْلَامِ جُنُودٍ مَفْقُودِينَ،
الْقَنَادِيلُ تَصِيرُ قُلُوبًا مُعَلَّقَةً،
تَنْبُضُ لَحْظَةً ثُمَّ تَنْطَفِئُ،
تُتْرُكُكَ بَيْنَ رَمَادِهَا
كَطِفْلٍ يَتِيمٍ يَبْحَثُ عَنْ أُغْنِيَةٍ فِي كِتَابٍ مُحْتَرِقٍ،
الْمَقَاعِدُ تَنْحَنِي مِثْلَ أَجْسَادٍ نَسِيَهَا السُّجُودُ،
كُلُّ مِسْمَارٍ فِيهَا يُهْمِسُ بِاسْمٍ مُخْتَلِفٍ،
وَأَنْتَ وَحْدَكَ تَسْمَعُهُمْ،
تَعُدُّ أَسْمَاءً لَا تُحْصَى،
كَأَنَّكَ آخِرُ الشُّهُودِ عَلَى حَيَاةٍ لَمْ تَكْتَمِلْ،
يَمُرُّ الْقِطَارُ،
بِلَا أَبْوَابٍ، بِلَا نَوَافِذ، بِلَا رُكَّابٍ،
يَمُرُّ مِثْلَ طَيْفٍ ،
يَضْحَكُ لَكَ بِصَفِيرٍ أَجْوَفَ
وَيَتْرُكُكَ فِي الرِّيحِ
كَحَرْفٍ أَخِيرٍ سَقَطَ مِنْ كُرَّاسٍ يَبْكِي،
وَحِينَ تُغَادِرُ الْمَحَطَّةَ،
تَجِدُ الشَّوَارِعَ تَجُرُّ أَرْجُلَهَا خَلْفَكَ،
كَأَنَّ الْمَدِينَةَ كُلَّهَا رَصِيفٌ مَمْدُودٌ،
وَكُلَّ الْأَبْوَاب لَوْحَاتٌ مُعَلَّقَةٌ عَلَى جِدَارٍ بِلَا بُيُوتٍ،
الرِّيحُ تَسْأَلُكَ:
إِلَى أَيْنَ؟
وَلَا جَوَابَ غَيْرُ ارْتِطَامِ الْخُطُوَاتِ بِالْحَجَرِ،
وَلَا رَفِيقَ غَيْرُ ظِلٍّ يَهْرمُ مَعَكَ،
وَيَكْتُمُ ضِحْكَةً غَامِقَةً،
تَتَذَكَّرُ الَّذِينَ رَحَلُوا،
كَأَنَّهُمْ مَقَاعِد مَهْجُورَة
وَ أَصْوَات عَلِّقَتْ فِي سَقْفِ الْعَرَبَاتِ،
تَتَأَرْجَحُ بَيْنَ الْغِيَابِ وَالْغِيَابِ،
تَجْلِسُ عَلَى حَافَّةِ الْفَرَاغِ،
تَضَعُ قَلْبَكَ مِثْلَ تَذْكِرَةٍ مُمَزَّقَةٍ،
وَتَتْرُكُ صَمْتَكَ يُسَافِرُ وَحْدَهُ،
كَقِطَارٍ أَبَدِيٍّ
لَنْ يَصِلَ،
وَهَا أَنْتَ أَخِيرًا،
تُطْفِئُ عَيْنَيْكَ كَمَا يُطْفَأُ آخِرُ فَانُوسٍ فِي الْمَدَى،
تَسْنِدُ رَأْسَكَ إِلَى كَتِفِ الْخَلَاءِ،
وَتُدْرِكُ
أَنَّ الْقِطَارَ لَمْ يَغِبْ،
تَجَسَّدَ فَقَطْ فِي دَمْعَتَيْنِ عَلَى خَدِّكَ،
وَأَنَّ الرَّصِيفَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِرْآةً لِقَلْبِكَ،
حَيْثُ يَمْضِي كُلُّ مَا وَ مَنْ أَحْبَبْتَ
كَنُجُومٍ تَتَسَاقَطُ فِي بَحْرٍ لَا مَوْجَ لَهُ،
وَتَبْقَى أَنْتَ
الشَّاهِدَ الْوَحِيدَ
عَلَى قِصَّةٍ كَتَبَهَا الْغِيَابُ بِنَارٍ صَامِتَةٍ………

أضف تعليق