منطقتنا وتحديات المستقبل .
نعمه العبادي

تبدو الدراسات الاستشرافية في منطقتنا وكأنها مغامرة عقلية محفوفة بالمخاطر، ليس لأنها تتطلب أدوات تحليلية معقدة فحسب، بل لأن البيئة الإقليمية ذاتها عصية على التوقع، متشابكة على نحو يجعل حتى أكثر مراكز البحوث العالمية خبرة وأكبر الأجهزة الاستخبارية، بما فيها الأميركية والإسرائيلية والإيرانية تقف عند حدود عاجزة أمامها.
المنطقة التي كادت تنزلق إلى حرب شاملة قبل أشهر قليلة، تعيش اليوم حالة من السيولة في موازين القوى، وتبدل في خرائط الفاعلين والمنفعلين، وضبابية في الأهداف المعلنة مقارنة بما يجري على الأرض.
ومن هنا تكتسب محاولة استشراف مستقبلها بعداً استثنائياً، إذ إن الأمر لم يعد مجرد سيناريوهات محكومة بوقائع مرصودة، بل هو بحث في أسئلة مفتوحة، بعضها غير مسبوق، تحاول أن تلامس ملامح المستقبل الذي يظل عصياً على الترويض.
ما يزيد الأمر تعقيداً أن الفاعلين الكبار أنفسهم يعيشون حالة تضاد بين الأقوال والأفعال، فدونالد ترامب نفسه الذي كان يعلن أن لا مصلحة لأميركا في الحروب الطويلة، هو ذاته الذي كان يوقع قرارات تسليح حلفاء يضاعفون اشتعال الساحات، ويبدل أسم وزارته من وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، أما إسرائيل، التي تسوّق خطاب “السلام عبر القوة” ، فإن سياساتها على الأرض لا تفعل سوى تكريس بيئة الصراع الممتد، وبين هذه وتلك تقف دول الإقليم من العراق وسوريا إلى مصر والخليج واليمن، في قلب معادلة يصعب فيها التمييز بين الخطاب السياسي وبين الوقائع العنيفة المتراكمة. ومن هنا تبدو صعوبة الاستشراف مضاعفة: فالتحدي ليس فقط في تحديد السيناريوهات المحتملة، بل حتى في صياغة الأسئلة الصحيحة القادرة على فتح نوافذ للتكهن بمستقبل هذه المنطقة.
هل نحن أمام مسار يتجه إلى التهدئة وضبط التوترات، أم أننا نخطو نحو المزيد من التصعيد وربما الانزلاق إلى حرب شاملة تلتهم الجميع؟ وهل أن الإرادات الأساسية للفاعلين تميل إلى الخيار الأول، أم أن مصالح عميقة وعقائد راسخة تدفعهم قسراً نحو الخيار الثاني؟ إلى أي مدى يمكن أن تُحكم خيوط الوقائع أو تبقى عصية على السيطرة؟
هنا يطل سؤال آخر أكثر عمقاً: هل لا يزال الفاعل المركزي في معادلة المنطقة هو الدولة القومية، أم أن قوى ما دون الدولة، من جماعات عابرة للحدود وحركات أيديولوجية وأذرع استخباراتية، باتت أكثر تأثيراً في صياغة المشهد؟ وإن صح هذا، فما علاقة هذه القوى بالدولة؟ هل هي في حالة تكامل أم صراع على الشرعية؟ هذه الأسئلة، كما يشير باحثو “فورين أفيرز” في مقالاتهم الأخيرة، تكاد تكون نقطة الانطلاق لأي مقاربة استشرافية، إذ لم يعد ممكناً الركون إلى منطق الدولة وحدها كمرجع لتفسير المسارات.
وما يزيد المشهد غموضاً أن التداخل بين المصالح المادية والمعتقدات الدينية بات أوثق مما نظن، فبينما تُحرك المصالح الاقتصادية والجيواستراتيجية جزءاً من القرار، يظل البعد العقائدي حاضراً بقوة، فيكفي أن نقرأ خطاب التيار التدبيري المسيحي في الولايات المتحدة لندرك كيف تتحول السرديات الدينية الخلاصية إلى محدد سياسي، فحديثهم عن “إعادة بناء الهيكل الثالث” و”معركة هرمجدون” و”الضيقة العظمى”، ليس مجرد لاهوت هامشي، بل إطار ذهني ينعكس في خيارات دعم إسرائيل بلا حدود، وفي النظر إلى العراق وبابل بوصفهما مسرحاً نبوئياً، ومصدراً للشر، ومركز قيادة المعسكر الذي سيحاربه المسيح، وسوف تدمر كاملاً، في المقابل، لا تقل السردية الشيعية المهدوية تأثيرً، حيث يظل انتظار الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، عنصراً مؤثراً في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي، ورافعة لتفسير كثير من التوترات والمواقف، وفي قلب المشهد، تتشابك السردية اليهودية الصهيونية التي ترى في الحروب الراهنة مقدمات لزمن خلاص قومي.
هذا التنازع العقائدي ليس تفصيلاً، بل جزء من المحركات التي تعيد رسم خرائط الفعل في منطقتنا.
على الصعيد الجزئي، يظل كل ملف محلي حاملاً لبذور استشرافية تتجاوز حدوده، فسوريا، على سبيل المثال، ليست مجرد دولة تحاول ترميم مركزيتها، بل عقدة جيوسياسية مفتوحة على ثلاثة سيناريوهات: عودة تدريجية للنظام إلى كامل الجغرافيا بدعم روسي–إيراني، أو ترسيخ تقسيم أمر واقع عبر النفوذ التركي–الأميركي، أو استمرار الوضع المعلّق الذي يحول دون الحسم لأي طرف، وكل سيناريو من هذه السيناريوهات سيترك أثره على تركيا وإيران وإسرائيل على حد سواء.
أما إسرائيل، فإنها تعيش مفترق طرق بين محاولة فرض الأمن بالقوة وبين مخاطر الاستنزاف طويل الأمد، خصوصاً بعد حرب غزة الأخيرة التي وصفها تقرير لمركز “تشاتهام هاوس” بأنها “لحظة فارقة في إدراك إسرائيل لحدود القوة العسكرية في مواجهة الفاعلين غير الدولتيين” .
مصر والأردن والخليج بدورهم يشكلون حلقة محورية، فمصر تتأرجح بين طموح استعادة دور إقليمي تقليدي وبين ضغوط اقتصادية قد تدفعها إلى الانكفاء الداخلي، والأردن يظل في موقع هش، يتوسط الصراع لكنه مكبل بأزمات اقتصادية وسياسية تضعه في دائرة الخطر المستمر.
أما الخليج، فيجد نفسه موزعاً بين خيار التهدئة مع إيران، كما برز في التفاهم السعودي–الإيراني الأخير، وخيار التحالف الاستراتيجي مع واشنطن وتل أبيب، وهو خيار يفتح أبواباً لتوازنات قديمة–جديدة.
يبقى الملف الإيراني الأكثر تعقيداً، فإيران تواجه تحديات داخلية، أبرزها الازمة الاقتصادية وخارجية، تتمثل في التحالف الامريكي- الغربي الذي يضغط بقوة لإضعاف إيران، وفي الوقت نفسه تواصل إيران تحديها لكل ذلك سواء على مستوى الاستمرار في برامجها النووية او رفع مستوى التسلح الصاروخي او مواقفها السياسية، وكل ذلك يزيد المشهد تعقيداً: هل تنجح العودة إلى مسار تفاوضي يضبط الطموحات، أم أن التصعيد سيكون هو المآل؟ مجلة “فورين بوليسي”، حذرت مؤخراً من أن أي انهيار محتمل للاتفاق النووي سيعني انفتاح المنطقة على سباق تسلح إقليمي غير مسبوق.
أما العراق، فإنه مقبل على مرحلة، لا تزال غير واضحة المعالم، فالانتخابات المرتقبة غير واضحة المآلات: هل ستنتج استقراراً سياسياً يتيح للعراق لعب دور التوازن، أم أنها ستعيد إنتاج الانقسام والفوضى؟ موقع العراق بين النفوذ الأميركي والإيراني، وتفاعلاته مع الخليج وتركيا، تجعله عقدة أساسية لأي استشراف، فكثير من المحللين يرون أن بغداد إما أن تتحول إلى لاعب توازن يعيد رسم التفاعلات، أو تظل ساحة صراع مستمر بين القوى الكبرى.
كل هذه الاستشرافات الجزئية تفضي إلى إعادة تركيب مشهد كلي لمنطقتنا، مشهد مفتوح على أربعة مسارات عامة: تهدئة نسبية عبر تفاهمات إقليمية ودولية، تصعيد متدرج يقود إلى حروب محدودة، إعادة تشكل للتوازنات بحيث تبرز قوى جديدة على حساب أخرى، أو انفتاح على تدخلات دولية كبرى تعيد صياغة المنطقة من جديد.
أي من هذه المسارات سيغلب؟ هنا يظل عنصر المفاجأة حاضراً بقوة، فكما كتب أحد محللي “كارنيغي” فإن “منطقة الشرق الأوسط تتقن فن مفاجأة حتى أكثر المراقبين خبرة، بما يجعل أي توقع نهائي أقرب إلى مجازفة فكرية” .
في النهاية، يبقى المشهد ضبابياً، مفتوحاً على كل الاحتمالات، محكوماً بتداخل المصالح والعقائد، وبقدرة اللاعبين على استيعاب حدود قوتهم أو اندفاعهم نحو مغامرات غير محسوبة، لكن فوق كل ذلك، تظل الإرادة الإلهية العليا هي القادرة على قلب الموازين وإعادة كتابة المصير، وبين هذا وذاك، تظل الحاجة إلى التفكير النقدي خارج الصندوق أكثر إلحاحاً: فماذا لو ظهرت قوى جديدة غير متوقعة تعيد رسم المشهد؟ ما الذي لم نضعه بعد في حساباتنا؟ وكيف يمكن للشعوب ووعيها أن تتحول من كونها مجرد متلقٍ للسياسات إلى فاعل يعيد صياغة الموازين؟ إنها أسئلة ليست للترف الفكري، بل لمحاولة فهم عالم يعيد تشكيل نفسه كل يوم.
أضف تعليق