تعليم المقهورين باولو فرايريحين يتحوّل التعليم إلى فعل تحرّر .

تعليم المقهورين باولو فرايريحين يتحوّل التعليم إلى فعل تحرّر .

إعداد : سامي الفارس

في زمنٍ تتسع فيه الفجوة بين من يملكون المعرفة ومن يُحرَمون منها، يطلّ كتاب «تعليم المقهورين» للفيلسوف والمربّي البرازيلي باولو فيريري كصرخةٍ فكرية في وجه أنظمة تعليمية تُعيد إنتاج القهر بدل أن تفكّكه. ليس هذا الكتاب مجرّد أطروحة تربوية، بل بيانٌ إنساني يعلن أن التعليم الحقيقي لا يُلقَّن، بل يُنتزع، وأن الوعي هو أول خطوة نحو الحرية.

الفصل الأول: وعي المقهورين وبذور التحرّر

يفتتح فيريري كتابه من قلب التجربة الإنسانية للاضطهاد. فالمقهور، في نظره، لا يعي قهره إلا عندما يبدأ في التفكير النقدي بواقعه. القهر لا يُمارس فقط بالسلطة السياسية أو الاقتصادية، بل أيضًا عبر الثقافة والتعليم والإعلام.
ويحذّر فيريري من أن المقهور، حين يثور بلا وعي، قد يعيد إنتاج قهرٍ جديد يشبه الذي هرب منه. لذا، يدعو إلى وعيٍ تحرّري يتجاوز الغضب إلى إدراك بنية القهر وآلياته الاجتماعية والنفسية.
إنها البداية التي تزرع السؤال الكبير: كيف يتحوّل التعليم إلى طريقٍ للوعي لا أداةً للطاعة؟

🔹 الفصل الثاني: التعليم البنكي (التلقين ).. حين يصبح العقل حسابًا مغلقًا

في الفصل الثاني، يقدّم فيريري واحدًا من أشهر مفاهيمه: “نموذج التعليم البنكي”.
في هذا النموذج، يُعامَل الطلاب كأوعية فارغة يملؤها المعلم بالمعلومات، بينما يظلّون سلبيين، متلقّين، عاجزين عن التفكير النقدي.
يقول فيريري إن هذا النوع من التعليم “يُميت الروح” لأنه يعلّم التقليد الأعمى فتموت العقول وتتجمد بدل التساؤل والتفاعل ، ويخلق أجيالًا ترى الواقع كما هو، لا كما يمكن أن يكون.
في مقابل ذلك، يطرح التعليم الحواري — حيث يتحوّل المعلم والمتعلم إلى شريكين في عملية بحثٍ مستمر، يتبادلان الأسئلة لا الإجابات الجاهزة. فالمعرفة لا تُودَع، بل تُبنى.

الفصل الثالث: الحوار طريق الوعي

يرى فيريري أن الحوار ليس مجرّد وسيلة تربوية، بل هو جوهر العملية التعليمية. الحوار عنده فعل وجودي — لقاء إنساني بين من يسعون إلى فهم العالم لتغييره.
ومن هنا تأتي فلسفته في “التعليم التحرّري”:
لا سلطة للمعلم على المتعلم، بل علاقة تكافؤ تتيح للاثنين أن ينموا معًا.
الحوار، في رأيه، لا يحدث في الفراغ، بل في سياق اجتماعي مليء بالتناقضات، حيث يصبح كل سؤال عن المعرفة سؤالًا عن العدالة.

الفصل الرابع: العمل من أجل التغيير

يختم فيريري كتابه بالدعوة إلى الممارسة النقدية (Praxis) — أي الوعي المتجسّد في الفعل.
فالتعليم لا يكتمل إلا حين يتحوّل الوعي إلى عمل يغيّر الواقع.
يُحذّر فيريري من أن الثورة التربوية لا تعني استبدال معلم بآخر أو منهج بآخر، بل إعادة تعريف معنى التعليم ذاته: من أداة للهيمنة إلى فضاء للتحرّر.
وهنا يربط بين التربية والسياسة ربطًا عميقًا: فكل تعليم هو موقف سياسي، إمّا أن يكرّس النظام القائم، أو يفتح أفقًا لواقع جديد.

خلاصة: حين يتعلّم الإنسان أن يقول «لا»

بعد أكثر من نصف قرن على صدور الكتاب، ما يزال «تعليم المقهورين» حيًّا، لأنه لا يتحدث عن المدارس وحدها، بل عن كل منظومةٍ تُنتج الخضوع باسم المعرفة.
فيريري يذكّرنا بأن الحرية لا تُمنح، بل تُكتسب بالوعي، وأن التعليم الحق يبدأ حين يتعلّم الإنسان أن يفكر، ويسأل، ويقول “لا”.

إنه كتاب لا يُقرأ فحسب، بل يُمارَس — في كل مدرسة وجامعة ، وفي كل مجتمع يسعى إلى أن يعلّم أبناءه كيف يكونون أحرارًا لا أوعية.

ألهم الكتاب حركات التحرر والتربية الشعبية
في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
أثّر في الفكر التربوي التقدّمي والنسوي، وفي نظريات العدالة الاجتماعية والتعليم النقدي.
لا يزال يُدرّس في كليات التربية والفكر الاجتماعي حول العالم حتى اليوم

أضف تعليق