من وراء عودة رافع الرفاعي؟

من وراء عودة رافع الرفاعي؟


عدنان فرج الساعدي

في مساءٍ خريفيٍّ من تشرين، عادت إلى بغداد صورة من الماضي تحمل ملامح الجدل والدهشة، حين وطأت قدما الشيخ رافع طه الرفاعي أرض العاصمة بعد أعوامٍ من الغياب والنفي. مشهدٌ بدا كأنه خرج من ذاكرة عقدٍ مضطرب، عاد فيه صوت كان بالأمس رمزاً للانقسام، واليوم يُستقبل في قلب المدينة بمواكب وسيارات، وابتساماتٍ يختلط فيها العفو بالذهول.

تساؤلٌ كبير يتردد في الشارع: من الذي فتح له بوابة بغداد؟ ومن الذي قرّر أن يُغسل الغبار عن اسمٍ ارتبط في الوعي العراقي بسنواتٍ من الفتنة والدم؟ لا إجابة قاطعة حتى الآن، لكن المؤكد أنّ ما جرى لم يكن صدفة ولا وليد مبادرة فردية، بل خطوة محسوبة في ميزان السياسة، تُخفي وراءها تواقيع لم تُعلن، وتفاهمات صيغت في الغرف الموصدة.

الرفاعي، الذي حمل يوماً لقب “مفتي الديار العراقية” في زمنٍ كانت فيه المنابر تُدار بلهيب الخطاب، غادر البلاد تحت وطأة الملاحقة والاتهام بالتحريض. واليوم، يعود في لحظةٍ يُعاد فيها ترتيب أوراق الداخل، وكأن السياسة العراقية تُعيد فتح ملفات الماضي لا من باب العدالة، بل من بوابة المصالحة الانتقائية التي تُسامح من تشاء وتُدين من تشاء.

تتحدث همسات الكواليس عن وساطاتٍ طويلة بين عواصم وقيادات، وعن مصالح تقاطعت في لحظة احتياجٍ متبادل. فالرجل، رغم انقسام المواقف حوله، ما زال يحمل وزناً رمزياً في بيئته الاجتماعية والدينية، وهو ما يجعل حضوره أداةً نافعة في لعبة التوازنات. وربما رأت بعض القوى أن عودته تُرضي جمهوراً ناقماً، أو تُلمّع خطاب “التسوية الوطنية” في موسمٍ تتقاطع فيه الاستحقاقات السياسية بالتحالفات الجديدة.

غير أنّ المشهد لم يمرّ بهدوء. فملفات الذاكرة العراقية ليست صفحاتٍ تُطوى بسهولة. أصواتٌ كثيرة ارتفعت غاضبة، تتساءل: أليس هذا هو الرجل الذي دعا ضد القوات الأمنية في زمن النار؟ أليس هذا هو الصوت الذي قسّم المنابر وعمّق الجراح؟ وبين الاتهام والتبرير، يقف المواطن البسيط حائراً، لا يدري إن كان يشهد فصلاً جديداً من المصالحة، أم مسرحية جديدة من مسرحيات الذاكرة العراقية التي لا تعرف نهاية.

في بغداد، كل عودةٍ لها ثمن، وكل ظهورٍ له هدف. والسياسة، كما تعلّمها العراقيون بعد عام 2003، لا تعرف خطوطاً حمراء حين تتقاطع المصالح. فربما لم تعد عودة الرفاعي سوى رمزٍ لحقيقة أكبر: أنّ هذا البلد ما زال يُعيد تدوير رموزه، ويستدعي أشباحه كلما أراد أن يبدأ من جديد.

هكذا إذن، دخل الرفاعي من بوابة “المطار” لا من بوابة التاريخ، بينما بقي السؤال معلّقاً في فضاء بغداد:
هل عاد الرجل لأنه تاب، أم لأن السياسة احتاجت إليه؟

وفي العراق، حين يُغسل وجه الماضي بالماء السياسي، تبقى رائحة الرماد تملاء الهواء .


أضف تعليق