
من رفيف الغزل إلى مشكاة الحكمة ، تحوّلات صورة المرأة ومسار الوعي في الشعر العربي .
عماد خالد رحمة
في ذاكرة الشعر العربي، لم تكن المرأة يومًا مجرّد تفصيلٍ زخرفي في صدر القصيدة، بل كانت منبعًا أول يتفجّر منه المعنى، ومرآة كونية تكشف هشاشة الإنسان وقوّته في آنٍ واحد. فمنذ البدايات، وقف الشاعر العربي أمام الجمال ليحيا به—as أشار الجاحظ—فكان الغزل لغة وجود، واحتفالًا بالأنوثة، وملاذًا تتلمّس فيه الروح صورتها وهي تستعيد ذاتها في وجيب خفقة أو حدقة عين.
غير أنّ الشعر لم يبقَ معلّقًا في نشوة الحسن؛ فقد تسلّل الغزل شيئًا فشيئًا إلى مناطق أعمق من النفس، ليتحوّل إلى ضوءٍ يُضيء عتمات الروح. فالمرأة في عالم عنترة لم تكن معشوقةً فحسب، بل كانت ظلّ الحرية التي يقاتل لأجلها. وليلى المجنون لم تكن ساكنةً في الصحراء، بل كانت نموذج الحبّ الطاهر الذي لا يخضع لمساومة ولا يُدنّسه غرض. وهنا يتجلّى قول ابن حزم في طوق الحمامة:
“الحبُّ أخلاق، وما خلا من الأخلاق فهو هيكلٌ بغير روح.”
وهي إشراقة أولى لتحوّل الغزل إلى منظومة قيمية، لا مجرّد وجدان عابر.
ومع اتّساع رقعة الشعر وتنوّع أساليبه، اتخذت صورة المرأة بُعدًا رمزيًا أكثر تعقيدًا. ففي شعر المتنبي، لم يعد الجمال مقصدًا بذاته، بل أصبح نافذةً تُطلّ على الحقيقة والحكمة:
“وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ منقصةٌ… ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ.”
لم تكن الجملة شرحًا لغويًا بقدر ما كانت هدمًا لثقافةٍ ذكورية ضيّقت أفق الوعي، وتقييدًا لنظامٍ من الأحكام المسبقة. وهكذا اندمج الجمال بالأخلاق، فصار الغزل وسيلة لتحرير الفكر من أسر الشكل.
وحين دخل الحبُّ فضاء التجربة الصوفية، بلغت المرأة ذروة الرمزية؛ أصبحت صورةً للحقيقة ومرآةً للروح الباحثة عن أصلها. يرى جلال الدين الرومي أنّ:
“كلُّ حبٍّ أرضيٍّ سلمٌ إلى حبّ الله.”
وفي هذا المستوى، يتحوّل الغزل إلى ممارسة أخلاقية تصقل النفس وتطهّرها من غوايات اللحظة.
ومع تغيّر السياقات التاريخية والاجتماعية، صار الشعر مدرسةً للسلوك ومساحةً لتقويم التجربة. فامرؤ القيس، الذي بدأ بالغواية والمرأة والخمرة، تحوّل عبر الذاكرة العربية إلى نموذج الشاعر الذي لم يروّض شهوته؛ فكان شعره مرآة للانفلات الإنساني.
بينما ارتقى زهير بن أبي سلمى إلى رمزٍ للحكمة حين قال:
“ومن لا يَذُدْ عن حوضِه بسلاحِه يُهدَّمْ.”
فكان شعره درسًا في الأخلاق العملية، لا تنظيرًا مجرّدًا.
وبين الغزل والأخلاق، بقيت المرأة مركزًا ثابتًا في فضاء القصيدة، لكنها لم تعد عينًا تُوصف أو خصرًا يُشاد به؛ بل أصبحت مجازًا للخصب الروحي، ودلالة على المعنى الأصيل للحياة. صارت المرأة مفهومًا أخلاقيًا:
الوفاء، الصبر، النقاء، الرحمة، الحكمة، القدرة على ترميم الوجود.
وهكذا انتقل الشعر العربي من سطح الجمال إلى عمقه، من هوى اللحظة إلى بصيرة المعنى، ومن الجسد إلى الروح. إنّ الشعر لم يبتعد يومًا عن المرأة، بل ابتعد عن سذاجة النظر إليها.
ففيها رأى الشاعر الكون، ومن لغتها استمدّ معنى الشرف، وفي حنانها اكتشف الأخلاق.
وفي نهاية الرحلة، تبدو مسيرة الشعر العربي مسارًا لارتقاء الوعي:
يبدأ بالمرأة وردةً تُلهم القلب، وينتهي بالإنسان شجرةً تمتد جذورها في الحبّ، وتتشعّب أغصانها في الحكمة.