
عصر التزييف: البنية التي تصنع الوعي الزائف .
دراسة بقلم عباس النوري العراقي
مع مقارنة فكرية عربية وغربية
مقدمة
عباس النوري / العراق
من خلال سنوات من متابعة الشأن الثقافي والفكري والسياسي، وجدت أن توصيف عصرنا بـ “عصر التفاهة” غير كافٍ، وربما مضلّل. فالظواهر التي نعيشها اليوم — من انحدار القيم، وتضخم الإعلام، وانهيار المعايير، وصعود الرموز السطحية — ليست مجرد حالة اجتماعية عفوية، بل نتيجة هندسة واعية للوعي.
وعليه، أطرح هنا مفهومًا أدق وأسلم توصيفًا:
عصر التزييف.
التزييف ليس انحطاطًا طبيعيًا، بل مشروعًا متكاملًا تتداخل فيه السياسة والإعلام والاقتصاد، هدفه إنتاج إنسان هش، ضعيف، غير مرتبط بجذوره، وغير قادر على التمييز بين الحقيقة وصورتها.
هذه الدراسة تسعى إلى:
- تقديم تعريف فلسفي لمفهوم “عصر التزييف”.
- تحليل آليات صنع الوعي الزائف.
- دمج اقتباسات من كتاباتي السابقة لتوثيق تطور هذا المفهوم.
- مقارنة نقدية بين رؤيتي ورؤية الفيلسوف الكندي “ألان دونو” صاحب عصر التفاهة.
- الاسترشاد بآراء مفكرين عرب وغربيين لتعميق التحليل.
- تقديم رؤية لمشروع مقاومة معرفية — سماه لاحقًا: فلسفة الاستعادة.
⸻
**الفصل الأول
تعريف عصر التزييف: من التفاهة إلى الهندسة**
- التزييف مشروع لا ظاهرة
لقد قلت في إحدى مقالاتي:
«التفاهة لا تأتي وحدها؛ بل تُصنع، وتُروَّج، ويُعاد تغليفها حتى تبدو بديلًا مقبولًا عن القيمة الحقيقية.»
(1)
التزييف — كما أراه — لا يهدف إلى نشر التفاهة فقط، بل إلى تحويل التفاهة إلى معيار ثقافي.
وبذلك تتوقف القيمة عن كونها معيارًا موضوعيًا، وتصبح صورة مُنتجة.
هذا يشبه ما أشار إليه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حين تحدث عن “تشويه الفضاء العام” عبر تحويل النقاش من عقلاني إلى إعلامي–موجه.
(7)
- قلب الحقيقة وصناعة البديل
عصر التزييف لا يخفي الحقيقة، بل يغرقها وسط صور بديلة.
الصورة اليوم أقوى من الواقع، والمعنى السريع أقوى من المعرفة العميقة.
وكما كتبت:
«الإعلام اليوم لا يخبر الناس عمّا يحدث؛ بل يخبرهم عمّا يريد له أن يحدث في عقولهم.»
(2)
هذه الفكرة تتقاطع مع تحليل بيير بورديو الذي يرى أن الإعلام قادر على “التلاعب ببنية الإدراك” عبر اختزال العالم في رموز وصور.
(8)
- قطع الجذور ومسح الهوية
من أخطر أشكال التزييف، تزييف الذاكرة.
وقد كتبت:
«الأمم لا تموت عندما تُهزم، بل عندما تُنسى.»
(5)
وهذا يقود إلى ما أشار له مالك بن نبي حين اعتبر أن أول خطوة في إخضاع شعب هي فصله عن ذاكرته وسرده التاريخي.
(12)
⸻
**الفصل الثاني
آليات التزييف: كيف يُعاد تشكيل الإنسان؟**
- الإعلام: من ناقل إلى مُهندس
الإعلام في عصر التزييف لا يقدم الحقيقة، بل يقدم نسخة محسوبة منها.
يُضخم، ويهمّش، وينتقي، ويصيغ الوقائع وفق ما يخدم هدف صناعة وعي محدد.
كما قلت سابقًا:
«الإعلام أصبح مصنعًا للواقع… لا مرآة له.»
(2)
ويتوافق ذلك مع أطروحة نعوم تشومسكي في كتابه الشهير Manufacturing Consent حول صناعة الرضا الشعبي عبر التحكم بالمعلومات.
(9)
- السياسة: إدارة الخداع
السياسة في عصر التزييف لا تدير المجتمع، بل تدير تصورات المجتمع.
«تضليل الوعي ليس خطأً سياسيًا، بل هو جوهر اللعبة.»
(3)
وهذا يذكرنا بتحليل عبد الله العروي الذي اعتبر أن الدولة الحديثة لا تحكم عبر القوانين فقط، بل عبر إدارة التخيل الاجتماعي.
(10)
- الاقتصاد: الإنسان المستهلك
عندما يتحول الإنسان إلى مستهلك دائم، تنحسر قدرته على التفكير.
الإنسان المُرهق اقتصاديًا يُصبح سهل القيادة، وهذا جزء أساسي من مشروع التزييف.
⸻
**الفصل الثالث
المقارنة النقدية: عصر التفاهة (دونو) وعصر التزييف (النوري)**
كتب ألان دونو عملًا مهمًا بعنوان عصر التفاهة، ورغم أهمية تحليله، فإنه يعالج النتيجة، بينما أعالج البنية التي أنتجت النتيجة.
وقد قلت:
«التفاهة حالة… أما التزييف فهو صناعة.»
(4)
اختلافات أساسية بين المنهجين:
- دونو وصف الظاهرة — صعود الرداءة.
وأنا وصفت الآلية — هندسة الرداءة. - دونو ركّز على البعد الاقتصادي-الإداري.
بينما أرى التزييف مشروعًا سياسيًا–إعلاميًا–ثقافيًا. - دونو يشخّص الوضع.
أما أنا فأقدم مشروع مقاومة.
ويتقاطع طرحي مع رؤية زيغمونت باومان حول “الحداثة السائلة”، حيث تُذاب القيم والثوابت، ليطفو السطح فقط.
(11)
⸻
**الفصل الرابع
عصر التزييف والذاكرة: صراع على الماضي**
الذاكرة ليست الماضي، بل المعادلة التي تُصنع بها الهوية.
لذلك تستهدفها القوى التي تصنع التزييف.
«الأمم لا تُهزم… بل تُنسى.»
(5)
يتطابق هذا مع رؤية بول ريكور في كتابه Memory, History, Forgetting الذي يؤكد أن المجتمعات تُساق نحو الضياع عندما تفقد حقها في سرد ذاتها.
(13)
⸻
**الفصل الخامس
مشروع المقاومة: من عصر التزييف إلى فلسفة الاستعادة**
أسمي المشروع الذي أطرحه هنا:
فلسفة الاستعادة.
«استعادة الوعي ليست عودة إلى الماضي، بل استعادة الإنسان الذي سُرق منا.»
(6)
ركائز فلسفة الاستعادة:
- الوعي النقدي: تفكيك الرسائل بدل استهلاكها.
- إحياء القدوة الأصيلة: إعادة الاعتبار للنماذج الثقافية الحقيقية.
- العودة الواعية للجذور: ليس من باب الماضي، بل من باب القوة الحضارية.
- ترميم الإنسان: إعادة بناء الذات قبل المجتمع.
⸻
الخاتمة
عصر التزييف ليس مجرد مرحلة، بل بنية تُصنع بوعي.
والمعركة ليست مع الإعلام وحده، ولا السياسة وحدها، بل مع تشكيل الإنسان.
إن استعادة الإنسان هي الخطوة الأولى لاستعادة المجتمع، والثقافة، والتاريخ، والوعي…
وهي جوهر هذا المشروع الفكري.
⸻
الهوامش (للاقتباسات من مقالاتك)
(1) عباس النوري، الوعي الذي يُسرق من بين أيدينا، مقال صحفي.
(2) عباس النوري، الإعلام وصناعة الواقع، مقال رأي، 2023.
(3) عباس النوري، السياسة بوصفها تضليلًا للوعي، منشور في “كتابات”.
(4) عباس النوري، التزييف والتفاهة: مقاربة أولية، 2024.
(5) عباس النوري، الأمم لا تُهزم… بل تُنسى، مقال ثقافي.
(6) عباس النوري، مشروع الاستعادة: الإنسان أولًا، 2022.
⸻
المراجع الفكرية والأكاديمية
مفكرون غربيون
- Habermas, Jürgen. The Structural Transformation of the Public Sphere, 1989.
- Bourdieu, Pierre. On Television, 1996.
- Chomsky, Noam & Edward Herman. Manufacturing Consent, 1988.
- Deneault, Alain. Mediocracy / La Médiocratie, 2015.
- Bauman, Zygmunt. Liquid Modernity, 2000.
- Ricoeur, Paul. Memory, History, Forgetting, 2004.
مفكرون عرب
- مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي.
- عبد الله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة.
- محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي