الريف يعيد إنتاج السلاح… والمدينة تستعيد هدوءها تحت سلطة القانون .

الريف يعيد إنتاج السلاح… والمدينة تستعيد هدوءها تحت سلطة القانون .

عامر جاسم العيداني

لم تكن المدن العراقية قبل سنوات بعيدة عن أصوات الإطلاقات بل كانت تسمع بين الحين والآخر نزاع هنا ومشاجرة هناك وإطلاق نار يسجل حضورا مفاجئا في الأحياء لكن شيئا ما تغير خلال السنوات الأخيرة. فالمراكز الحضرية بدأت تستعيد هدوءها تدريجيا وكأن المدينة تسترجع شيئا من وزنها ومكانتها بعد أن نجحت الدولة في بسط القانون وإعادة تنظيم العمل الأمني.

وفي الوقت الذي يتراجع فيه السلاح داخل المدن يبدو الريف مسرحا مختلفا تماما وهناك ما زال المشهد يتكرر كما كان منذ عقود حيث خلاف بسيط حول جذع نخلة، شريعة ماء، أو حدود أرض، او حيوان تجاوز على مزرعة يمكن أن يتحول في ساعات إلى مواجهة مسلحة واسعة تتقابل فيها العشائر بالعشرات وربما المئات وتطلق فيها الأعيرة النارية بكثافة وبمختلف الاسلحة من التي استولت عليها العشائر من الوحدات العسكرية بعد انهيار النظام عام ٢٠٠٣ ويسقط بسببها قتلى وجرحى ورغم وصول القوات الأمنية تبقى الأزمة قابلة للاشتعال من جديد لأن البيئة لم تتغير بعد.

صار السلاح اليوم أثقل حضورا في الريف وأطراف المدن وأكثر قدرة على التأثير في تفاصيل الحياة اليومية وفي المقابل لم يعد المشهد نفسه داخل المدينة فقد أصبحت الدوريات أكثر انتظاما والإجراءات الأمنية أوضح والمواطن يشعر ولو بحدود أن القانون أصبح أقرب إليه من السلاح وهو تحول بطيء لكنه واضح ورغم هذا تحدث بعض الاحيان مشاجره مسلحة تنفض بسرعة بعد تدخل القوات الامنية.

غير أن هذا الاختلاف بين الريف والمدينة لا يعني أن المشكلة انتهت فما يحدث في الأطراف لا يبقى فيها دائما حيث ان الريف يصدر أزماته سواء عبر حركة السكان أو امتداد العشائر داخل المدن أو عبر لغة القوة التي قد يجد البعض أنها امتداد طبيعي لنمط الحياة التقليدي.

ولأن السلاح ليس ظاهرة أمنية فقط بل بيئة كاملة تنمو حول الفراغ ويصبح السؤال كيف يمكن إطفاء جذوة النزاعات بدلا من ملاحقة نتائجها؟

الحلول ليست معقدة لكنها تحتاج إرادة وعملا ففي القرى ما زال الشاب يقف أمام خيارات محدودة ، أرض زراعية لم تعد كافية وبطالة تقطع سنوات عمره ووقت فراغ لا يجد فيه سوى العشيرة والسلاح وإرث الآباء. لذلك فإن بناء مراكز للشباب والرياضة هناك ليس مجرد فكرة تجميلية بل إنها نافذة جديدة في جدار مغلق. ملعب صغير، قاعة رياضية، مركز تدريب مهني، حتى مكتبة بسيطة كلها تفاصيل قد تغير اتجاه شاب واحد ومن ثم تتغير حياة عائلة وربما قرية كاملة.

أما تشغيل الشباب فهو المدخل الأكثر تأثيرا فاليد التي تعمل لا تحمل السلاح بسهولة والعقل الذي ينشغل بالإنجاز لا يبحث عن نزاع ومشاريع صغيرة يمكن أن تنشأ شركات تشجع على الاستثمار في الريف وقروض تعطى لمن يستطيع أن يبدأ عملا بسيطا لكنه مستمر حيث كل ذلك يقلل من احتمالات اللجوء إلى لغة السلاح.

وتبقى الدولة ضلعا أساسيا في المعادلة وان وجودها لا يجب أن يكون فقط عند وقوع النزاع بل قبل ذلك بكثير بتوفير طرق ممهدة، مدارس أفضل، مراكز صحية، حضور واضح للسلطات المحلية وعندما يشعر المواطن بأن الدولة موجودة إلى جانبه يصبح الاحتكام إلى القانون أقرب من الاحتكام إلى البارودة.

ومن دون مصالحات عشائرية حقيقية قائمة على اتفاقات واضحة بين شيوخ العشائر والوجهاء والحكومة يبقى نزاع اليوم مؤجلاً ليوم آخر فالمجتمع أقدر من الدولة أحيانا على إطفاء الخلافات قبل أن تتحول إلى معارك مكلفة.

وفي النهاية ليست المدن وحدها من تستحق الأمن ولا الريف قدرا محتوما على العنف حيث كلاهما يحتاج إلى الفرصة ذاتها والمسار ذاته والحياة نفسها.
وكلما ازداد الضوء في الريف بمركز شباب جديد، بملعب صغير، بتشغيل عدد من الشباب، بمدرسة ترمم، أو بخط ماء يصل إلى بيت بعيد انحسرت مساحة الظل التي يختبئ فيها السلاح.

فالاستقرار لا يولد من فوهة بندقية بل من يد تعمل ومدينة تنمو وقرية تعطى ما تستحقه من حياة وحين يفهم الشباب أن المستقبل أقوى من الماضي المسلح يضعون السلاح جانبا دون أن تأمرهم الدولة بذلك.

أضف تعليق